الرسول صلىاللهعليهوسلم من الحديبية ، أو فتح مكة أو في حجة الوداع ، أو عند رجوعه منها .. كل هذه الروايات فيها مقال ـ لأنها بجانب ـ تفرد بعض المحدثين بها فإنها تخالف ما جاء في كتب السنة الصحيحة من أن بعض آياتها قد نزل في حجة الوداع ، وبعضها قد نزل بعد غزوة المريسيع ، وبعضها كان معروفا للصحابة قبل اشتراكهم في غزوة بدر.
ولأن بعض آيات هذه السورة تحكى لنا أحداثا ومجادلات قد حصلت بين النبي صلىاللهعليهوسلم وبين اليهود ، وهذه الأحداث وتلك المجادلات من المستبعد أن تكون قد حدثت بعد غزوة بنى قريظة في السنة الخامسة من الهجرة ، لأنه ـ كما سبق أن أشرنا ـ لم يبق لليهود نفوذ في المدينة بعد غزوة بنى قريظة ، حتى يستطيعوا أن يواجهوا النبي صلىاللهعليهوسلم بما واجهوه من مجادلات ومن تحاكم اليه بقصد إحراجه ـ كما سنفصل ذلك عند تفسيرنا للآيات المتعلقة بهذا الموضوع.
ومع كل هذا فنحن نرجح أن جانبا كبيرا من آيات سورة المائدة قد نزل متأخرا عن صلح الحديبية ، بل عن فتح مكة ، لأن بعض آياتها تقرر أن المشركين قد صاروا في يأس من التغلب على المسلمين بعد أن فتح المسلمون مكة بعد أن أتم الله لهم دينهم. قال ـ تعالى ـ (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).
ولأن هناك آثارا تشهد بأن سورة المائدة ـ في مجموعها ـ من آخر ما نزل على النبيصلىاللهعليهوسلم من قرآن.
قال القرطبي : وروى عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قرأ سورة المائدة في حجة الوداع وقال : «يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر ما نزل فأحلوا حلالها وحرموا حرامها».
ونحوه عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ موقوفا. قال جبير بن نفير : دخلت على عائشة فقالت : هل تقرأ سورة المائدة؟ فقلت : نعم. فقالت : فإنها من آخر ما أنزل الله. فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه (١)».
والخلاصة ، أن الذي يغلب على ظننا أن سورة المائدة لم تنزل دفعة واحدة في وقت معين أو في زمان معين ، وإنما نزل بعضها في السنوات التي سبقت صلح الحديبية ، ونزل معظمها بعد هذا الوقت ، للأسباب التي سبق أن بيناها ، وأن الروايات التي تقول بنزولها دفعة واحدة أو في وقت معين وزمان معين من الممكن أن تحمل على أن المراد بها مجموع السورة لا جميعها.
٧ ـ هذا وعند ما نستعرض سورة المائدة استعراضا إجماليا نراها في مطلعها تأمر المؤمنين
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣١