الأرض يوجب إهدار الدم ـ كالردة وزنا المحصن ـ (فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) لأن الذي يقتل نفسا بغير حق ، يكون قد استباح دما مصونا قد حماه الإسلام بشرائعه وأحكامه ، ومن استباح هذا الدم في نفس واحدة ، فكأنه قد استباحه في نفوس الناس جميعا ، إذ النفس الواحدة تمثل النوع الإنسانى كله. (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) أى : ومن تسبب في إحيائها وصيانتها من العدوان عليها ، كأن استنقذها مما يؤدى بها إلى الهلاك والأذى الشديد ، أو مكن الحاكم من إقامة الحد على قاتلها بغير حق ، من فعل ذلك فكأنما تسبب في إحياء الناس جميعا.
وفي هذه الجملة الكريمة أسمى ألوان الترغيب في صيانة الدماء ، وحفظ النفوس من العدوان عليها ، حيث شبه ـ سبحانه ـ قتل النفس الواحدة بقتل الناس جميعا ، وإحياءها بإحياء الناس جميعا.
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف شبه الواحد بالجميع ، وجعل حكمه كحكمهم؟ قلت : لأن كل إنسان يدلى بما يدلى به الآخر من الكرامة على الله ، وثبوت الحرمة. فإذا قتل فقد أهين ما كرم على الله وهتكت حرمته ، وعلى العكس. فلا فرق إذا بين الواحد والجميع في ذلك.
فإن قلت : فما الفائدة في ذكر ذلك؟ قلت : تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب وليشمئز الناس عن الجسارة عليها ، ويتراغبوا في المحاماة على حرمتها ، لأن المتعرض لقتل النفس إذا تصور قتلها بصورة قتل الناس جميعا ، عظم ذلك عليه فثبطه ـ عن القتل ـ وكذلك الذي أراد إحياءها (١)».
وقال الإمام ابن كثير : قال الحسن وقتادة في قوله ـ تعالى ـ (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً) .. إلخ. هذا تعظيم لتعاطى القتل. قال قتادة : عظيم والله وزرها ، وعظيم والله أجرها. وقيل للحسن : هذه الآية لنا كما كانت لبنى إسرائيل؟ فقال : إى والذي لا إله غيره ـ هي لنا ـ كما كانت لهم. وما جعل ـ سبحانه ـ دماءهم أكرم من دمائنا (٢).
وعلى هذا التفسير الذي سرنا عليه يكون المراد بالنفس في قوله (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً) : العموم أى : نفسا يحرم قتلها من بنى الإنسان.
وبعضهم يرى أن المراد نفس الامام العادل ، لأن القتل في هذه الحالة يؤدى إلى اضطراب أحوال الجماعة ، وإشاعة الفتنة فيها. قال القرطبي : روى عن ابن عباس أنه قال : المعنى :
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٦١٧.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٥١.