وقوله : (كَتَبْنا) بمعنى فرضنا وأوجبنا وقررنا. والمراد بالنفس : الذات.
أى : أنزلنا التوراة على موسى لتكون هداية ونورا لبنى إسرائيل ، وفرضنا عليهم (أن النفس بالنفس) أى : مقتولة أو مأخوذة بها إذا قتلتها بغير حق. وأن (العين) مفقوءة (بِالْعَيْنِ) وأن (الْأَنْفَ) مجدوع (بِالْأَنْفِ) وأن (الْأُذُنَ) مقطوعة (بِالْأُذُنِ) وأن (السِّنَ) مقلوعة (بِالسِّنِ) وأن (الْجُرُوحَ قِصاصٌ) أى : ذات قصاص ، بأن يقتص فيها إذا أمكن ذلك ، وإلا فما لا يمكن القصاص فيه ـ ككسر عظم وجرح لحم لا يمكن الوقوف على نهايته ـ ففيه حكومة عدل.
وعبر ـ سبحانه ـ عما فرض عليهم من عقوبات في التوراة بقوله : (كَتَبْنا) للإشارة إلى أن هذه العقوبات وتلك الأحكام لا يمكن جحدها أو محوها ، لأنها مكتوبة والكتابة تزيد الكلام توثيقا وقوة.
قال القرطبي ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ). ألخ قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطف.
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب الكل إلا الجروح ؛ فإنه بالرفع على القطع عما قبله والاستئناف به ـ أى أن الجروح مبتدأ وقصاص خبره.
وقرأ الكسائي وأبو عبيد : (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ، وَالْجُرُوحَ) بالرفع فيها كلها.
قال أبو عبيد : حدثنا حجاج عن هارون عن عباد بن كثير ، عن عقيل عن الزهري ، عن أنس أن النبي صلىاللهعليهوسلم قرأ (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ).
والرفع من ثلاث جهات ، بالابتداء والخبر. والوجه الثاني : بالعطف على المعنى على موضع (أن النفس) ، لأن المعنى قلنا لهم : النفس بالنفس والوجه الثالث ـ قاله الزجاج ـ يكون عطفا على المضمر في النفس. لأن الضمير في النفس في موضع رفع ، لأن التقدير أن النفس هي مأخوذة بالنفس فالأسماء معطوفة على هي (١).
وقوله : (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) ترغيب في العفو والصفح.
والضمير في (به) يعود إلى القصاص. والتعبير عنه بالتصدق للمبالغة في الحث عليه فإنه أدعى إلى صفاء النفوس. وإلى فتح باب التسامح بين الناس.
__________________
(١) راجع تفسير القرطبي ج ٦ ص ١٩٢