والفاء في قوله : (فَاحْكُمْ) للإفصاح عن شرط مقدر.
أى : إذا كان شأن القرآن كما ذكرت لك يا محمد فاحكم بين هؤلاء اليهود وبين غيرهم من الناس بما أنزله الله من أحكام ، فإن ما أنزله هو الحق الذي لا باطل معه ، ولا تتبع في حكمك أهواء هؤلاء اليهود وأشباههم لأن اتباعك لأهوائهم يجعلك منحرفا ومائلا عما جاءك من الحق الذي لا مرية فيه ولا ريب. ولم يقل ـ سبحانه ـ «فاحكم بينهم به» بل ترك الضمير وعبر بالموصول فقال : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) للتنبيه على علية ما في حيز الصلة للحكم ، لأن الموصول إذا كان في ضمن حكم تكون الصلة هي علة الحكم.
أى : التزم في حكمك بينهم بما يؤيده القرآن لأنه الكتاب الذي أنزله الله عليك.
قال بعض العلماء : «وهذا يفيد أن اليهود الذين عاشروا النبي صلىاللهعليهوسلم ومن جاءوا بعدهم مخاطبون بشريعة القرآن ، وأنه نسخ ما قبله من الشرائع إلا ما جاء النص بوجوب العمل به كالقصاص ، أو ما لم يثبت أنه نسخ والمعول عليه في الحالين هو القرآن وما جاء به الرسول صلىاللهعليهوسلم ولقد روى أنه ـ عليهالسلام ـ ذكر أن موسى لو كان حيا ما وسعه إلا الإيمان به ـ عليهالسلام» (١).
والضمير في قوله ، (أَهْواءَهُمْ) يعود إلى أولئك اليهود الذين كانوا يتحاكمون إلى النبي صلىاللهعليهوسلم لا بقصد الوصول إلى الحق ، وإنما بقصد الوصول إلى ما يسهل عليهم احتماله من أحكام.
قال الآلوسى : والنهى يجوز أن يكون لمن لا يتصور منه وقوع المنهي عنه ، ولا يقال : كيف نهى صلىاللهعليهوسلم عن اتباع أهوائهم ، وهو صلىاللهعليهوسلم معصوم عن ارتكاب ما دون ذلك. وقيل الخطاب له صلىاللهعليهوسلم والمراد سائر الحكام» (٢).
وقوله : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) استئناف جيء به لحمل أهل الكتاب على الانقياد لحكمه صلىاللهعليهوسلم بما أنزل الله إليه من الحق.
والشرعة والشريعة بمعنى واحد. وهي في الأصل الطريق الظاهر الموصل للماء. والمراد بها هنا ما اشتمل عليه الدين من أحكام تكليفية يجب العمل بها أمرا ونهيا وندبا وإباحة. وسمى ما اشتمل عليه الدين من أحكام شريعة تشبيها بشريعة الماء. من حيث إن كلا منهما سبب الحياة. إذ أن الشريعة الدينية سبب في حياة الأرواح حياة معنوية. كما أن الماء سبب في حياة الأرواح حياة مادية.
__________________
(١) تفسير الآية الكريمة لفضيلة الشيخ الأستاذ محمد أبو زهرة. مجلة لواء الإسلام العدد الرابع السنة ٢١
(٢) تفسير الآلوسى ج ٦ ص ١٥٢