إلى قوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (١).
وقوله : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) في محل نصب عطفا على الكتاب في قوله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ).
وقوله : (أَنْ يَفْتِنُوكَ) بدل اشتمال من المفعول في (وَاحْذَرْهُمْ) كأنه قيل : واحذر فتنتهم كما تقول : أعجبنى زيد علمه.
والمراد بالفتنة هنا محاولة إضلاله وصرفه عن الحكم بما أنزل الله.
والمعنى : وأنزلنا إليك الكتاب يا محمد فيه حكم الله ، وأنزلنا إليك فيه أن أحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، واحذرهم أن يضلوك أو يصدوك عن بعض ما أنزلناه إليك ولو كان أقل قليل ؛ بأن يصوروا لك الباطل في صورة الحق ، أو بأن يحاولوا حملك على الحكم الذي يناسب شهواتهم :
وقد كرر ـ سبحانه ـ على نبيه صلىاللهعليهوسلم وجوب التزامه في أحكامه بما أنزل الله ، لتأكيد هذا الأمر في مقام يستدعى التأكيد ، لأن اليهود كانوا لا يكفون عن محاولتهم فتنته صلىاللهعليهوسلم وإغراءه بالميل إلى الأحكام التي تتفق مع أهوائهم ، ولأنه قد جاء في الآية السابقة ما قد يوهم بأن لكل قوم شريعة خاصة بهم (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) وأن حكم القرآن ليس له صفة العموم فأراد ـ سبحانه ـ أن ينفى هذا الوهم نفيا واضحا وأن يؤكد أن شريعة القرآن هي الشريعة العامة الخالدة التي يجب أن يتحاكم إليها الناس في كل زمان ومكان ، لأنها نسخت ما سبقها من شرائع.
وقوله ـ تعالى ـ (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) تيئيس لأولئك اليهود الذين حاولوا إغراء الرسول صلىاللهعليهوسلم بأن يقضى لهم بما يرضيهم لكي يتبعوه ، ونهى له صلىاللهعليهوسلم ولأتباعه عن الاستجابة لأهواء هؤلاء ولو في أقل القليل مما يتنافى مع الحق الذي أمره الله ـ تعالى ـ بالسير عليه في القضاء بين الناس.
ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة كل من يعرض عن حكم الله ـ تعالى ـ فقال : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ).
أى : فإن تولوا عن حكمك ، وأعرضوا عنك بعد تحاكمهم إليك وأرادوا الحكم بغير ما أنزل الله. فاعلم أن حكمة الله قد اقتضت أن يعاقبهم بسبب بعض هذه الذنوب التي اقترفوها بتوليهم عن حكم الله ، وإعراضهم عنك ، وانصرافهم عن الهدى والرشاد إلى الغي والضلال ، لأن الأمة التي لا تخضع لأحكام شرع الله ، وتسير وراء لذائذها ومتعها وشهواتها وأهوائها
__________________
(١) تفسير ابن جرير ج ٦ ص ٢٧٣.