وقرأه الباقون بفتح النون على اعتبار أن «أن» ناصبة لتكون. وحسب على هذه القراءة على بابها من الشك والظن.
وسد مسد مفعولي حسب على القراءتين ما اشتمل عليه الكلام من المسند والمسند إليه وهو أن وما في حيزها.
وقوله (فَعَمُوا) معطوف على (حَسِبُوا) وجيء بالفاء التي للسببية للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها.
أى أن عماهم عن الطريق القويم وصممهم عن سماع الحق كان سببه ظنهم الفاسد ، واعتقادهم الباطل أن ما ارتكبوه من قبائح لن يعاقبوا عليه في الدنيا.
ومن بديع إيجاز القرآن الكريم أن أومأ إلى عدم اهتمامهم بمصيرهم في الآخرة ببيان أن ظنهم لن تنزل بهم مصائب في الدنيا يسبب مفاسدهم ، هذا الظن هو الذي جعلهم يرتكبون ما يرتكبون من قبائح .. أما الآخرة فلا مكان لها في تفكيرهم ، لأنهم قوم تعساء يحرصون على الدنيا حرصا شديدا دون أن يعيروا الآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب أى اهتمام.
وهذا شأن الأمم إذا ما استحوذ عليها الشيطان وتغلب عليها حب الشهوات وضعف الوازع الديني في نفوس أفرادها. إنهم في هذه الحالة يصير همهم مقصورا على تدبير شئون دنياهم ، فإذا ما وجدوا فيها مأكلهم وشربهم وملذاتهم اغمضوا أعينهم عن آخرتهم ، بل وربما استهانوا وتهكموا بمن يذكرهم بها فتكون نتيجة إيثارهم الدنيا على الآخرة الشقاء والتعاسة.
وجيء بحرف العطف (ثُمَ) المفيد للتراخي في قوله (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) للإشارة إلى أن قبول توبتهم كان بعد مفاسد عظيمة وقعت منهم أى : ثم تاب الله عليهم بعد أن كان منهم ما كان من منكرات وجرائم وإعراض عن الرشد والهدى.
وقوله (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) بيان لنقضهم لعهودهم مع الله ، وارتكاسهم في الذنوب والخطايا والمنكرات. ارتكاسا شديدا بحيث صاروا ليسوا أهلا لقبول التوبة منهم بعد ذلك.
أى : بعد أن قبل الله توبتهم من جرائمهم المنكرة. عادوا إلى الانتكاس مرة أخرى فوقعوا في الذنوب والجرائم بإصرار وعناد فأصابهم ما أصابهم من عقوبات لم يتب الله عليهم بعدها.
وقوله (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) بدل من الضمير في قوله (عَمُوا وَصَمُّوا) وهذا الإبدال في غاية الحسن. لأنه لو قال (عَمُوا وَصَمُّوا) بدون هذا البدل لأوهم ذلك أنهم جميعا صاروا كذلك. فلما قال (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) دل على أن العمى والصمم قد حدث للكثيرين منهم ، وهناك قلة منهم لم تنقض عهودها مع الله ـ تعالى ـ بل بقيت على إيمانها وصدق توبتها.