والاستفهام هنا يتضمن حضهم على التوبة والرجوع إلى الحق وتوبيخهم على ما كان منهم من ضلال والتعجيب من استمرارهم على كفرهم وعقائدهم الفاسدة التي لا يقبلها عقل سليم ، ولا تصور قويم.
والفاء للعطف على مقدر يقتضيه الكلام. أى : أيسمعون ما يسمعون من الحق الذي يزهق باطلهم ومن النذر التي ترقق القلوب فلا يحملهم ذلك على التوبة والرجوع إلى الله وطلب مغفرته ، والحال أنه ـ سبحانه ـ عظيم المغفرة واسع الرحمة لمن آمن وعمل صالحا.
إن إصرارهم على كفرهم بعد تفنيده وإبطاله ، وبعد تحذيرهم من سوء عاقبة الكافرين ليدل على أنهم قوم ضالون خاسرون يستحقون أن يكونوا محل عجب الناس وإهمالهم.
قال أبو السعود : وقوله (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) جملة حالية من فاعل (يَسْتَغْفِرُونَهُ) مؤكدة للإنكار والتعجيب من إصرارهم على الكفر وعدم مسارعتهم إلى الاستغفار.
أى : والحال أن الله : ـ تعالى ـ مبالغ في المغفرة. فيغفر لهم عند استغفارهم ويمنحهم من فضله» (١).
وقال ابن كثير : هذا من كرمه ـ تعالى ـ وجوده ولطفه ورحمته بخلقه. مع هذا الذنب العظيم ، وهذا الافتراء والكذب والإفك ، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة. فكل من تاب إليه تاب عليه. كما قال (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم (٢).
ثم بين ـ سبحانه ـ حقيقة عيسى عليهالسلام ـ وحقيقة أمه مريم حتى يزيل عن ساحتهما ما افتراه عليهما المفترون فقال ـ تعالى : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ).
وقوله (صِدِّيقَةٌ) صيغة مبالغة في التمسك بفضيلة الصدق مثل شريب ومسيك مبالغة في الشرب والمسك.
قال الراغب : والصديق من كثر منه الصدق ، وقيل : بل يقال لمن لم يكذب قط : وقيل : بل لمن لا يأتى منه الكذب لتعوده الصدق. وقيل ، لمن صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بفعله .. قال تعالى ـ (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) فالصديقون هم قوم دون الأنبياء في الفضيلة (٣).
__________________
(١) تفسير أبو السعود ج ٧ ص ٥٠
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٨١
(٣) المفردات في غريب القرآن الكريم ص ٢٧٧