سواك لا يغنى ولا يشبع.
وقد جمع عيسى في دعائه بين لفظي «اللهم وربنا» إظهارا لنهاية التضرع وشدة الخضوع ، حتى يكون تضرعه أهلا للقبول والإجابة.
وعبر عن مجيء المائدة بالإنزال من السماء للإشارة إلى أنها هبة رفيعة ، ونعمة شريفة ، آتية من مكان عال مرتفع في الحس والمعنى ، فيجب أن تقابل بالشكر لواهبها ـ عزوجل ـ وبتمام الخضوع والإخلاص له.
وقوله (تَكُونُ لَنا عِيداً) صفة ثانية لمائدة ، وقوله (لَنا) خبر كان وقوله (عِيداً) حال من الضمير في الظرف.
قال الفخر الرازي : تأمل في هذا الترتيب ، فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضا ، فقدموا ذكر الأكل فقالوا (نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) وأخروا الأغراض الدينية الروحانية.
فأما عيسى فإنه لما ذكر المائدة وذكر أغراضه فيها قدم الأغراض الدينية وأخر غرض الأكل حيث قال : (وَارْزُقْنا) وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحية ، وبعضها جسمانية.
ثم إن عيسى لشدة صفاء دينه لما ذكر الرزق انتقل إلى الرازق بقوله (وَارْزُقْنا) لم يقف عليه : بل انتقل من الرزق إلى الرازق فقال : (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ). فقوله : (رَبَّنا) ابتداء منه بذكر الحق. وقوله (أَنْزِلْ عَلَيْنا) انتقال من الذات إلى الصفات.
وقوله (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة ، بل من حيث إنها صادرة من المنعم.
وقوله : (وَآيَةً مِنْكَ) إشارة إلى كون هذه المائدة دليلا لأصحاب النظر والاستدلال.
وقوله : (وَارْزُقْنا) إشارة إلى حصة النفس.
ثم قال الإمام الرازي : فانظر كيف ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلا إلى الأدون فالأدون ثم قال : (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) وهو عروج مرة أخرى من الخلق إلى الخالق ، ومن غير الله إلى الله ، وعند ذلك تلوح لك سمة من كيفية عروج الأرواح المشرقة النورانية إلى الكمالات الإلهية ونزولها (١).
ثم ختم ـ سبحانه ـ حديثه عن هذه المائدة وما جرى بشأنها بين عيسى والحواريين من
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٢ ص ١٣١