الناس ـ ، ومع ذلك فالمشاهد الغالب بينهم ، أن الأغنياء لا يردون أموالهم على خدمهم وعبيدهم بحيث يتساوون معهم في الرزق ، وإذا ردوا عليهم شيئا ، فإنما هو شيء قليل يسير يدل على بخلهم وحرصهم .. مع أنى أنا الرازق للجميع.
وإلى هذا المعنى أشار ابن كثير بقوله عند تفسيره للآية : «يبين ـ تعالى ـ للمشركين جهلهم وكفرهم فيما زعموه لله من شركاء وهم يعترفون بأنهم عبيد له ، كما كانوا يقولون في تلبيتهم في حجهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ، فقال ـ تعالى ـ منكرا عليهم : أنتم لا ترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم ، فكيف يرضى هو تعالى ـ بمساواة عبيد له في الإلهية والتعظيم ، كما قال ـ تعالى ـ في آية أخرى (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ ، هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ...) (١).
وقال العوفى عن ابن عباس في هذه الآية يقول : لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم ، فكيف يشركون معى عبيدي في سلطاني .. (٢)».
وهذا المعنى الثاني هو الأقرب إلى سياق آيات السورة الكريمة ، لأن السورة الكريمة مكية ، ومن أهدافها الأساسية دعوة الناس إلى إخلاص العبادة لله ـ عزوجل ـ ، ونبذ الإشراك والمشركين ، وإقامة الأدلة المتنوعة على بطلان كل عبادة لغير الله ـ تعالى ـ.
ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ).
والاستفهام هنا للتوبيخ والتقريع ، والفاء معطوفة على مقدر أى : أيشركون به ـ سبحانه ـ فيجحدون نعمه ، وينكرونها ، ويغمطونها حقها ، مع أنه ـ تعالى ـ هو الذي وهبهم هذه النعم ، وهو الذي منحهم ما منحهم من أرزاق؟!!.
ثم ذكرت السورة الكريمة بعد ذلك نعمة أخرى من نعم الله ـ تعالى ـ على الناس ، فقال ـ تعالى ـ : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً).
أى : والله ـ تعالى ـ هو وحده الذي جعل لكم (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أى : من جنسكم ونوعكم (أَزْواجاً) لتسكنوا إليها ، وتستأنسوا بها ، فإن الجنس إلى الجنس آنس وأسكن.
قال ـ تعالى ـ : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ، لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ...) (٣).
__________________
(١) سورة الروم الآية ٢٨.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٧٧.
(٣) سورة الروم الآية ٢١.