وبذلك نرى الآية الكريمة قد رسمت أقوم طرق الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ وعينت أحكم وسائلها ، وأنجعها في هداية النفوس.
إنها تأمر الدعاة في كل زمان ومكان أن تكون دعوتهم إلى سبيل الله لا إلى سبيل غيره : إلى طريق الحق لا طريق الباطل ، وإنها تأمرهم ـ أيضا ـ أن يراعوا في دعوتهم أحوال الناس ، وطباعهم ، وسعة مداركهم ، وظروف حياتهم ، وتفاوت ثقافاتهم.
وأن يخاطبوا كل طائفة بالقدر الذي تسعه عقولهم ، وبالأسلوب الذي يؤثر في نفوسهم ، وبالطريقة التي ترضى قلوبهم وعواطفهم.
فمن لم يقنعه القول المحكم ، قد تقنعه الموعظة الحسنة ، ومن لم تقنعه الموعظة الحسنة. قد يقنعه الجدال بالتي هي أحسن.
ولذلك كان من الواجب على الدعاة الى الحق ، أن يتزودوا بجانب ثقافتهم الدينية الأصيلة الواسعة ـ بالكثير من ألوان العلوم الأخرى كعلوم النفس والاجتماع والتاريخ ، وطبائع الأفراد والأمم .. فإنه ليس شيء أنجع في الدعوة من معرفة طبائع الناس وميولهم ، وتغذية هذه الطبائع والميول بما يشبعها من الزاد النافع ، وبما يجعلها تقبل على فعل الخير ، وتدبر عن فعل الشر.
وكما أن أمراض الأجسام مختلفة ، ووسائل علاجها مختلفة ـ أيضا ـ ، فكذلك أمراض النفوس متنوعة ، ووسائل علاجها متباينة.
فمن الناس من يكون علاجه بالمقالة المحكمة : ومنهم من يكون علاجه بالعبارة الرقيقة الرفيقة التي تهز المشاعر ، وتثير الوجدان ، ومنهم من يكون علاجه بالمحاورة والمناقشة والمناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن ، لأن النفس الإنسانية لها كبرياؤها وعنادها ، وقلما تتراجع عن الرأى الذي آمنت به. إلا بالمجادلة بالتي هي أحسن. والحق : أن الدعاة إلى الله ـ تعالى ـ إذا فقهوا هذه الحقائق فتسلحوا بسلاح الإيمان والعلم ، وأخلصوا لله ـ تعالى ـ القول والعمل ، وفطنوا إلى أنجع الأساليب في الدعوة إلى الله ، وخاطبوا الناس على قدر عقولهم واستعدادهم .. نجحوا في دعوتهم ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
قال الآلوسى : وإنما تفاوتت طرق دعوته صلىاللهعليهوسلم لتفاوت مراتب الناس ، فمنهم خواص ، وهم أصحاب نفوس مشرقة ، قوية الاستعداد لإدراك المعاني ، مائلة إلى تحصيل اليقين على اختلاف مراتبه ، وهؤلاء يدعون بالحكمة.
ومنهم عوام ، أصحاب نفوس كدرة ضعيفة الاستعداد ، شديدة الإلف بالمحسوسات ، قوية