لنصرته ، تلبية للفطرة البشرية ، وتهدئة للغليان الذي تستشعره نفس الولي ، الغليان الذي قد يجرفه ويدفعه إلى الضرب يمينا وشمالا ، في حمى الغضب والانفعال على غير هدى. فأما حين يحس أن الله قد ولاه على دم القاتل. وأن الحاكم مجند لنصرته على القصاص ، فإن ثائرته تهدأ ، ونفسه تسكن ، ويقف عند حد القصاص العادل الهادئ.
والإنسان إنسان ، فلا يطالب بغير ما ركب في فطرته من الرغبة العميقة في القصاص. لذلك يعترف الإسلام بهذه الفطرة ويلبيها في الحدود المأمونة ، ولا يتجاهلها فيفرض التسامح فرضا. إنما هو يدعو إلى التسامح ويؤثره ، ويجبب فيه ، ويأجر عليه ، ولكن بعد أن يعطى الحق. فلولى الدم أن يقتص أو يصفح.
وشعور ولى الدم بأنه قادر على كليهما ، قد يجنح به إلى الصفح والتسامح ، أما شعوره بأنه مرغم على الصفح فقد يهيج نفسه ، ويدفع به إلى الغلو والجموح (١).
هذا ، والذي نعتقده وندين الله ـ تعالى ـ عليه ، أنه لا علاج لجريمة القتل ـ وغيرها ـ إلا بتطبيق شريعة الله ـ تعالى ـ التي جمعت بين الرحمة والعدل.
وبالرحمة والعدل : تتلاقى القلوب بعد التفرق ، وتلتئم بعد التصدع ، وتتسامى عن الانتقام إلى ما هو أعلى منه وهو العفو.
وبعد أن نهى ـ سبحانه ـ عن إتلاف النفوس عن طريق القتل والزنا ، أتبع ذلك بالنهى عن إتلاف الأموال التي هي قوام الحياة ، وبدأ ـ سبحانه ـ بالنهى عن الاقتراب من مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ، ثم ثنى بالأمر بإيفاء الكيل والميزان عند التعامل ، فقال ـ تعالى ـ :
(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ، وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً. وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ ، وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ، ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً).
واليتيم : هو الصغير الذي مات أبوه مأخوذ من اليتم بمعنى الانفراد ، ومنه الدرة اليتيمة.
والخطاب في قوله : (وَلا تَقْرَبُوا ...) لأولياء اليتيم ، والأوصياء على ماله.
والأشد : قوة الإنسان ، واشتعال حرارته ، ومن الشدة بمعنى القوة. يقال : شد النهار إذا ارتفع واكتمل ، وهو مفرد جاء بصيغة الجمع. أو هو جمع لا واحد له من لفظه ، أو جمع شدة كأنعم ونعمة.
__________________
(١) في ظلال القرآن ج ١٥ ص ٢٢٣٥.