وقد اقتصر ابن كثير على هذا الوجه في تفسيره للآية فقال : يقول ـ تعالى ـ : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أن لله شريكا من خلقه ، لو كان الأمر كما تقولون ، من أن معه آلهة تعبد .. لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه يبتغون إليه الوسيلة والقربة. (١).
ومع وجاهة الرأيين ، إلا أن الرأى الأول أظهر ، لأن في الآية فرض المحال ، وهو وجود الآلهة مع الله ـ تعالى ـ ، وافتراض وجودها المحال لا يظهر منه أنها تتقرب إليه ـ سبحانه ـ ، بل الذي يظهر منه أنها تنازعه لو كانت موجودة ، ولأن هذا الرأى يناسبه ـ أيضا ـ قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً).
أى : تنزه الله ـ تعالى ـ عما يقوله المشركون في شأنه وتباعد ، وعلا علوا كبيرا ، فإنه ـ جل شأنه ـ لا ولد له ، فلا شريك له ...
قال ـ تعالى ـ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).
والتعبير بقوله ـ سبحانه ـ : (إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) يشير إلى الارتفاع والتسامى على تلك الآلهة المزعومة ، وأنها دون عرشه ـ تعالى ـ وتحته ، وليست معه ..
ثم بين ـ سبحانه ـ أن جميع الكائنات تسبح بحمده فقال ـ تعالى ـ : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ ، وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).
والتسبيح : مأخوذ من السبح ، وهو المر السريع في الماء أو في الهواء ، فالمسبح مسرع في تنزيه الله وتبرئته من السوء ، ومن كل ما لا يليق به ـ سبحانه ـ.
أى تنزه الله ـ تعالى ـ وتمجده السموات السبع ، والأرض ، ومن فيهن من الإنس والجن والملائكة وغير ذلك ، وما من شيء من مخلوقاته التي لا تحصى إلا ويسبح بحمد خالقه ـ تعالى ـ ، ولكن أنتم يا بنى آدم «لا تفقهون تسبيحهم» لأن تسبيحهم بخلاف لغتكم ، وفوق مستوى فهمكم ، وإنما الذي يعلم تسبيحهم هو خالقهم عزوجل ، وصدق ـ سبحانه ـ إذ يقول : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
والمتدبر في هذه الآية الكريمة ، يراها تبعث في النفوس الخشية والرهبة من الخالق ـ عزوجل ـ ، لأنها تصرح تصريحا بليغا بأن كل جماد ، وكل حيوان ، وكل طير ، وكل حشرة ..
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٧٦.