قال الفخر الرازي ـ رحمهالله ـ : اعلم أنه ـ تعالى ـ لما أطنب في شرح الإلهيات والنبوات ، والحشر والمعاد والبعث ، وإثبات القضاء والقدر ، ثم أتبعه بالأمر بالصلاة ، ونبه على ما فيها من الأسرار ، وإنما ذكر كل ذلك في القرآن ، أتبعه ببيان كون القرآن شفاء ورحمة. فقال ـ تعالى ـ : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ..).
ثم قال : ولفظة (مِنَ) هاهنا ليست للتبعيض ، بل هي للجنس كقوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ).
والمعنى : وننزل من هذا الجنس الذي هو قرآن ما هو شفاء ، فجميع القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين (١).
ومما لا شك فيه ، أن قراءة القرآن ، والعمل بأحكامه وآدابه وتوجيهاته .. شفاء للنفوس من الوسوسة ، والقلق ، والحيرة ، والنفاق ، والرذائل المختلفة ، ورحمة للمؤمنين من العذاب الذي يحزنهم ويشقيهم.
إنه شفاء ورحمة لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان ، فأشرقت بنور ربها ، وتفتحت لتلقى ما في القرآن من هدايات وإرشادات.
إنه شفاء للنفوس من الأمراض القلبية كالحسد والطمع والانحراف عن طريق الحق ، وشفاء لها من الأمراض الجسمانية.
قال القرطبي عند تفسيره لهذه الآية : اختلف العلماء في كونه ـ أى القرآن ـ شفاء على قولين :
أحدهما : أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وإزالة الريب ، ولكشف غطاء القلب من مرض الجهل.
الثاني : أنه شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقى والتعوذ ونحوه ، وقد روى الأئمة ـ واللفظ للدارقطنى ـ عن أبى سعيد الخدري قال : بعثنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم في سرية ثلاثين راكبا. قال : فنزلنا على قوم من العرب فسألناهم أن يضيفونا فأبوا. قال : فلدغ سيد الحي ، فأتونا فقالوا : أفيكم أحد يرقى من العقرب؟ قال : قلت : أنا نعم ، ولكن لا أفعل حتى تعطونا فقالوا : فإنا نعطيكم ثلاثين شاة. قال : فقرأت عليه (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) سبع مرات فبرئ. فبعثوا إلينا بالنّزل وبعثوا إلينا بالشاء. فأكلنا الطعام أنا وأصحابى ، وأبوا
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ج ٥ ص ٤٣٢.