والمعنى الثالث : أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله ـ تعالى ـ ومنابذة الناس ، كما تقول : قام فلان إلى أمر كذا ، إذا عزم عليه بغاية الجد (١).
وعلى أية حال فالجملة الكريمة تفيد أن هؤلاء الفتية كانت قلوبهم ثابتة راسخة ، مطمئنة إلى الحق الذي اهتدت إليه ، معتزة بالإيمان الذي أشربته ، مستبشرة بالإخاء الذي جمع بينها على غير ميعاد ، وصدق رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذ يقول : «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف».
ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قالوه بعد أن استقر الإيمان في نفوسهم فقال : (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً ..).
أى : أعلنوا براءتهم من كل خضوع لغير الله ـ عزوجل ـ حين قاموا في وجه أعدائهم ، وقالوا بكل شجاعة وجرأة : ربنا ـ سبحانه ـ هو رب السموات والأرض ، وهو خالقهما وخالق كل شيء ، ولن نعبد سواه أى معبود آخر.
ونفوا عبادتهم لغيره ـ سبحانه ـ بحرف ـ «لن» للإشعار بتصميمهم على ذلك في كل زمان وفي كل مكان ، إذ النفي بلن أبلغ من النفي بغيرها.
قال الآلوسى : وقد يقال ؛ إنهم أشاروا بالجملة الأولى ـ وهي : ربنا رب السموات والأرض ـ إلى توحيد الربوبية ، وأشاروا بالجملة الثانية ـ لن ندعو من دونه إلها ـ إلى توحيد الألوهية ، وهما أمران متغايران ، وعبدة الأوثان لا يقولون بهذا ، ويقولون بالأول : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) وحكى ـ سبحانه ـ عنهم أنهم يقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) وصح أنهم كانوا يقولون : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك (٢).
وقوله ـ سبحانه ـ (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) تأكيد لبراءتهم من كل عبادة لغير الله ـ تعالى ـ.
والشطط : مصدر معناه مجاوزة الحد في كل شيء ، ومنه : أشط فلان في السّوم إذا جاوز الحد ، وأشط في الحكم إذا جاوز حدود العدل : وهو صفة لموصوف محذوف ، وفي الكلام قسم مقدر ، واللام في «لقد» واقعة في جوابه ، و «إذا» حرف جواب وجزاء فتدل على شرط مقدر.
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ١٠ ص ٣٦٥.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢١٩.