أى : واضرب ـ أيها الرسول الكريم ـ مثلا للمؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ، وللكافرين الذين غرتهم الحياة الدنيا ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة.
قال الآلوسى : والمراد بالرجلين : إما رجلان مقدران على ما قيل ، وضرب المثل لا يقتضى وجودهما. وإما رجلان موجودان وهو المعول عليه. فقيل هما رجلان من بنى إسرائيل أحدهما : كافر .. والآخر : مؤمن.
ثم قال : والمراد ضربهما مثلا للفريقين المؤمنين والكافرين ، لا من حيث أحوالهما المستفادة مما ذكر آنفا ، بل من أن للمؤمنين في الآخرة كذا ، وللكافرين فيها كذا ، من حيث عصيان الكفرة مع تقلبهم في نعم الله ، وطاعة المؤمنين مع مكابدتهم مشاق الفقر» (١).
أى : واضرب لهم مثلا من حيثية العصيان مع النعمة ، والطاعة مع الفقر ، حال رجلين : (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما) وهو الكافر (جَنَّتَيْنِ) أى : بستانين ، ولم يعين ـ سبحانه ـ مكانهما ، لأنه لم يتعلق بهذا التعيين غرض.
ثم بين ما اشتملت عليه هاتان الجنتان من خيرات فقال : (مِنْ أَعْنابٍ) جمع عنب ، والعنبة الحبة منه. والمراد : من كروم متنوعة.
وقوله : (وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) بيان لما أضيف إلى الجنتين من مناظر تزيدهما بهجة وفائدة.
والحف بالشيء : الإحاطة به. يقال : فلان حفه القوم ، أى : أحاطوا به ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ...).
أى : جعلنا لأحد الرجلين ، وهو الكافر منهما جنتين من أعناب ، وأحطناهما بنخل ليكون كالحماية النافعة لهما ، وجعلنا في وسطهما زرعا وبذلك تكون الجنتان جامعتين للأقوات والفواكه ، مشتملتين على ما من شأنه أن يشرح الصدر ، ويفيد الناس.
ثم ذكر ـ سبحانه ـ ما يزيد من جودة الجنتين ، ومن غزارة خيرهما فقال : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً ، وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) وكلتا : اسم مفرد اللفظ مثنى المعنى عند البصريين ، وهو المذهب المشهور ، ومثنى لفظا ومعنى عند غيرهم.
أى : أن كل واحدة من الجنتين (آتَتْ أُكُلَها) أى : أعطت ثمارهما التي يأكلها الناس
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ١٥ ص ٢٧٣.