وإذا جعل الابتداء دليل الإعادة ، لزمهم أن يستدلوا به ، فهو وإن ذكره على [وجه الجمع لا على](١) وجه الاحتجاج ، ففيه موضع الاحتجاج عليهم.
وقوله عزوجل : (فِي الْأَرْضِ) فيه إخبار أنه خلقهم في الأرض ؛ ليشاهد بعضهم خلق بعض في الابتداء ؛ فيعلموا أنهم لم يكونوا على الحالة التي هم عليها للحال ، بل كانوا نطفا وعلقا وأطفالا إلى أن انتهوا إلى الحالة التي هم عليها ، فإذا تقرر عندهم أمر الابتداء ، أوجب لهم ذلك علما بالقدرة على الإعادة.
أو يكون قوله : (فِي الْأَرْضِ) أي : أنشأكم ، وجعل لكم مساكن في الأرض ، وبسطها لكم لتنتفعوا بها ، وجعلها لكم كفاتا ؛ فيكون فيه تذكيره النعمة والقدرة والسلطان.
وقوله عزوجل : (ذَرَأَكُمْ) أي : كثركم من أصل واحد ، كما قال ـ تعالى ـ : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) [النساء : ١].
ومعلوم بأن الخلق على كثرتهم ، لم يكونوا في نفس واحدة ، ومن قدر على خلق الأنفس من نفس واحدة ، لقادر على إعادة ما قد سبق كونه.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، فقولهم هذا خرج مخرج الاستهزاء ، أو الاستخفاف برسول الله صلىاللهعليهوسلم فأمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ نبيه ـ عليهالسلام ـ أن يجيبهم بالجواب الذي يليق من الحكماء ، ولم يأذن له أن يجازيهم باستخفافهم إياه استخفافا مثله ؛ فقال : (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) يبين لهم أنه لا ينذرهم إلا بالذي أمره به ، ولا يبلغ إليهم إلا ما قد أنزل إليه ، وأمر بتبليغه ، وفي هذه الآية دلالة نبوته ، وآية رسالته ؛ لأنه لو لم يكن رسولا ـ كما زعموا ـ وكان مختلقا من تلقاء نفسه ، لكان يمكنه أن يحيل ذلك إلى وقت لا يظهر غلطه فيه ، ولا كذبه لديهم ، وهو أن يحيله إلى وقت لا يعيش إلى مثل ذلك الوقت ، فإذا لم يفعل ، بل قال : (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) دلهم ذلك على رسالته ، وأنه إذا كان رسولا ، لم يكن له أن يزيد في الرسالة ، ولا أن يتكلف من عنده فيها زيادة ؛ كما ذكر في قوله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) [عبس : ١] أن فيه ما يقرر رسالته عندهم من الوجه الذي يذكر في تلك السورة ، إن شاء الله تعالى.
وقوله عزوجل : (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ، أي : لا أزيد في الإنذار على القدر الذي أمرت به.
وقوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، جائز أن يكون قوله تعالى : (رَأَوْهُ) ، أي : رأوا الذي وعدوا ، وقوله : (زُلْفَةً) ، أي : قريبة.
ثم أنت «الزلفة» ؛ لما أريد بها الأحوال التي تكون في ذلك اليوم من الأهوال
__________________
(١) سقط في أ.