والذي يدل على أن الحكمة توجب ما ذكرنا : أن الكفر لنفسه قبيح لا يحتمل الإطلاق ولا رفع الحرمة ؛ لما فيه من السفه ؛ لأن من رضي بشتم نفسه فهو سفيه ، فعلى ذلك عقوبته لا تحتمل في الحكمة رفعها والعفو عنها.
أو لما كان الكفر لا يحتمل الإباحة ورفع العقوبة ، والإفضال بالمغفرة يخرج (١) مخرج الإباحة لذلك ـ لم يجز القول فيه بالمغفرة والعفو ، وسائر المآثم جائز رفع الحرمة عنها.
ولأن الكافر اختار عداوة الله تعالى وكفران نعمه ، والذي اعتقد الإسلام اختار ولايته ، والحكمة توجب التفرقة بين العدو والولي ، وفي العفو عنه وإكرامه والإحسان إليه تسوية بين الولي والعدو ، و [في](٢) ذلك تضييع الحكمة ؛ ولأن الكافر عند نفسه أنه على الحق والصواب وغيره على الباطل والضلال ، وأنه غير مستوجب للعذاب ؛ يدل على ذلك حكايته عن أهل الكفر : (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ : ٣٥] ، فالله تعالى إذا أنعم عليه بالعفو وتطول عليه بالإحسان ، لم يقع ذلك عنده موقع التجاوز والغفران ، بل يقع عنده أنه إنما أحسن إليه ؛ لاستحقاقه (٣) الإحسان ، وعفا عنه لما سبق منه ما يستوجب به العقاب ، وإذا كان كذلك أدى ذلك إلى تضييع الإحسان وتضييع العفو وإبطال النعمة ؛ فثبت أن الحكمة لا توجب العفو عن الكافر ؛ إذ يحصل بذلك العفو في غير موضعه ، وأما أهل الإسلام الذين سبقت منهم الأجرام فقد علموا أن الذي سبق منهم زلات ومآثم ، وأن العذاب قد لزمهم ، وأنهم مستوجبون للعقاب ، فإذا عفا عنهم ، علموا أنهم إنما نالوا العفو بفضل الله تعالى فيقع الإحسان موقعه.
ولأن من أحسن إلى عدوه في الشاهد ، ولم يقصد بإحسانه إليه قصد استدراجه والمكر به ، فهو إنما يحسن إليه لما يخاف ناحيته ، ويخرج فعله هذا (٤) مخرج التذلل له ، فلو لم يؤاخذ الله الكافر بما تعاطى من الكفر ، بل أحسن إليه من غير تبعة عليه ، خرج عفوه وإحسانه إليه مخرج الخوف وإظهار التذلل ، والله تعالى يجل عن هذين الوصفين (٥) ؛ فثبت أن الحكمة توجب القول بالتخليد وتمنع القول بالعفو ، والله أعلم.
و [في](٦) قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا) دلالة أن لله تعالى أن
__________________
(١) في ب : ويخرج.
(٢) سقط في ب.
(٣) في أ : لاستجابة.
(٤) في ب : ذلك.
(٥) في أ : الوجهين.
(٦) سقط في ب.