وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) ، له تأويلان :
أحدهما : ذلك بأنهم آمنوا بلسانهم ثم كفروا بقلوبهم.
والثاني : على حقيقة الإيمان والكفر ، وذلك أنهم لما رأوا قلة المسلمين وضعفهم في أنفسهم يوم بدر ، ثم رأوهم مع هذه القلة والضعف غلبوا على الكفار مع كثرتهم ـ آمنوا برسول الله ورأوا أنهم لا يغلبون أبدا ، ثم إن المسلمين لما غلبوا يوم أحد وأصابهم [الكفار] ، اضطربوا في إيمانهم وشكوا وكفروا ؛ وذلك بمعنى قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) [الحج : ١١] فكذلك تأويل قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا).
وقوله : (ذلِكَ) إشارة إلى أن السبب الذي تولد منه نفاقهم وحلفهم.
وقولهم : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) هو أنهم آمنوا ثم كفروا.
وجائز أنه لم يكن منهم حقيقة إيمان ولا كفر ، ولكنهم كانوا أقواما همتهم الدنيا وسعتها ، وكانوا يكونون مع من يكون معه الدنيا إن رأوها مع المؤمنين أظهروا من أنفسهم أنهم مؤمنون ، وإن رأوها مع الكفار أظهروا أنهم كفار دون أن يكون منهم حقيقة إيمان أو كفر ، والله المستعان.
وقوله : (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ).
الطبع يجوز أن يكون كناية عن ستر وظلمة في قلوبهم ؛ فلا يرون بها الحق وحججه.
قال : ويجوز أن يجعل الله تعالى الكفر ظلمة في القلب لا يبصرون به الحجج والآيات.
أو يجوز أن يجعل الكفر كنّا في قلبه ؛ ليضيق ؛ فلا يرى من بعد ذلك منافعه ومضاره إلا من ذلك الوجه فيكفر ، وأيهما كان فذلك معنى الآية ، يعني : أن اشتغالهم بالكفر وكسبهم إياه غطى قلوبهم وسترها عن أن يبصروا الحق وحججه ، والله أعلم.
قال الفقيه ـ رضي الله عنه ـ في قوله : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) أن المنافقين لم يجيئوا بأجمعهم رسول الله ، وإنما جاءه بعضهم ، وكذلك في قوله : (نَشْهَدُ) أن المعنى من قوله : (نَشْهَدُ) في بعض التأويلات : نقسم ، والقسم ليس من فعل الأتباع والسفلة ، وإنما ذلك من فعل الأجلة والرؤساء ؛ فدل أنه إنما تعاطى هذا الفعل بعض المنافقين ، ثم ذكر الله تعالى ذلك البعض بصيغة الكل ؛ فعلم أنه ليس كل ما خرج في الظاهر مخرج العموم يتناول كل من دخل تحت ذلك الاسم ، ولكنه ينظر في معنى اللفظ وحقيقته ، فإن كان الدليل يوجب تعميمه أجري على عمومه ، وإن كان يوجب