وليه الصفي ، ولم يكن يعاملهم بما يعامل به الأعداء ؛ لأنه كان يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم وشرفهم في أمر دنياهم وآخرتهم ، ومن عامل آخر معاملة أقرب الأصفياء معه ، كان الحق عليهم أن يجازوه بالإحسان ؛ فإذا تركوا ذلك ، وقابلوه بالتكذيب ، اشتد عليه ، وحزن لذلك. ثم في قوله : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) ، وفي قوله : (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) [الأحقاف : ٣٥] إبطال قول من قال : إن الله تعالى لا يفعل بعبده إلا ما هو أصلح له ؛ لأنا نعلم أنه إذا أذن لنبي من الأنبياء بالدعاء على استعجال الهلاك ، واستجيب [له] فيما دعا ، كان فيه ما يحمل القوم على الإيمان ، ويردعهم عن التكذيب ؛ لأنهم يخافون حلول النقمة عليهم ؛ فيتركون التكذيب ، ويقبلون على الإجابة ؛ فيكون فيه نجاتهم عن الهلاك ، وشرفهم في أمر دنياهم وآخرتهم ، فإذا لم يؤذن (١) دل أنه ليس من شرط الله تعالى أن يفعل بعباده ما هو أصلح لهم.
فإن قيل : كيف لم يؤذن بالدعاء عليهم ؛ ليحملهم ذلك على الإسلام ، ويمنعهم عن التكذيب؟
قيل له : لأن فيما ذكرته رفع المحنة والابتلاء ؛ لأن الحجة إذ ذاك تقع من جهة الضرورة ؛ لأنهم إذا علموا أنهم يستأصلون بالتكذيب ، امتنعوا عنه ، وأجابوا إلى الإسلام كرها ؛ فتصير الحجج اضطرارية ، لا تمييزية واختيارية ، وحجج الرسل ـ عليهمالسلام ـ اختيارية ، لا ضرورية ؛ لما ذكرنا أنها لو جعلت اضطرارية ، لارتفعت المحنة ؛ فجعلت حججهم من وجه يقع بها الشبه ؛ ليوصل إلى معرفتها بالفكر ؛ لئلا ترتفع المحنة.
فإن قال قائل : إن أبا حنيفة ـ رحمهالله ـ ذكر في كتاب العالم والمتعلم : أن إيمان الملائكة وإيمان الرسل وإيماننا واحد ، ثم قال : فإذا استوينا نحن والرسل في الإيمان ، فكيف صار الثواب لهم أكمل ، وخوفهم (٢) من الله أشد؟
فأجاب عن هذا السؤال بأجوبة ، وقال في جملة ما أجاب : إنهم لو ارتكبوا الزلات يحل بهم العقاب عقيب الزلل ؛ فصار خوفهم بالله تعالى ألزم من هذه الجهة.
ولسائل أن يسأل على هذا ، فيقول : فإذن إيمانهم بالله تعالى ، وتركهم المعاصي ضروري لا اختياري؟!
فيجاب عنه بأن يقال بأن الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ لم يبيّن لهم العصمة ، بل كانوا على خوف من وقوعهم في المهالك ؛ ألا ترى إلى قول إبراهيم ـ عليهالسلام ـ : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥] ، ولو كانت العصمة له ظاهرة ، لكان يستغني عن السؤال.
__________________
(١) في ب : يؤذنوا.
(٢) في ب : وخوفه.