وقال في قصة شعيب ـ عليهالسلام ـ : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) [الأعراف : ٨٩] ، فثبت أنه لم يبين لهم العصمة ، ونحن إنما شهدنا لهم بالعصمة بالوجود ؛ لأن (١) الحكمة توجب العصمة ، والرسل ـ عليهمالسلام ـ أمروا بتبليغ الرسالة ، ولم يؤذن لهم بالنظر في أمر من تقدمهم من الرسل ؛ ليظهر لهم العصمة بالتدبر والتفكر ؛ فثبت أنهم كانوا على الخوف والرجاء في فكاك أنفسهم ، وفي وقوعها [في المهالك](٢) ، وأن إيمانهم بالله تعالى لم يكن ضروريّا ، بل وصلوا إلى معرفته بالتمييز ؛ لذلك عظمت درجاتهم.
والثاني : أن الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ قد كان تقرر في قلوبهم هيبة الله تعالى وعظمته ؛ فكانت المعرفة هي التي دعتهم إلى الإيمان به ، لا خوف حلول العقوبة بهم لو ارتكبوا الزلات ، وأما الكفرة ، فلم (٣) يعرفوا عظمة الله تعالى ، ولا قدرته ، ولا سلطانه حتى يحملهم ذلك على الإيمان به ، فلو حلت العقوبة بهم بالتكذيب ، لكان الخوف هو الذي يحملهم على الإيمان لا غير ؛ فيصير إيمانهم ضروريا ؛ فلهذا لم يعاقبوا بالتكذيب ؛ لئلا ترتفع المحنة ، وخولف بينهم وبين غيرهم ، وهذا كما نقول بأن أنباء من تقدم من الرسل حجة لرسولنا صلىاللهعليهوسلم في إثبات نبوته ، وإن كانت تلك الأنباء قد عرفها أهل الكتاب ، وأخبروا بها ؛ لأن أهل الكتاب عرفوا تلك الأنباء بالتعلم والتلقين ، ولم يختلف رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى من عنده علم تلك الأنباء ؛ فعلم أنه بالله تعالى علم ، لا بتعليم أحد ؛ فصارت الأنباء حججا لذلك ، ولو لم تصر لغيره حجة ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) :
جائز أن يكون تأويله : اهجرهم وقت سبهم ، ونسبتهم إياك إلى ما لا يليق بك ، ولا تعبأ بهم ، ولا تكترث إليهم ، وإلى ما يتقولون عليك ؛ لأن ذلك بعض ما يزجر (٤) المتقول والساب عما هو فيه ، وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣].
ويحتمل أن يكون تأويله : أن انقطع عنهم انقطاعا جميلا ، والانقطاع الجميل : ألا يترك شفقته عليهم ، ولا يدعو عليهم بالهلاك ، ولا يمتنع عن دعائهم إلى ما فيه رشدهم
__________________
(١) في ب : لا أن.
(٢) سقط في ب.
(٣) في ب : لم.
(٤) في ب : يوجب.