وصلاحهم ؛ ولذلك قال في وقت أذاهم إياه : «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون».
ويحتمل أن يكون هجره إياهم (١) هجرا جميلا هو ألا يكافئهم بالسيئة السيئة ، بل يدفع السيئة بالحسنة ؛ كقوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) [المؤمنون : ٩٦] ؛ إذ ذاك أدعى للخلق إلى إجابة من يفعل ذلك بهم عند المعاملة ، والله أعلم.
ثم من الناس من يقول بأن هذه الآية نسختها آية السيف.
ومنهم من قال بأنها لم تنسخ ، وصرفوا تأويل الآية إلى جهة لا يعمل عليها النسخ ، وذلك أن في قوله : (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) منع المكافأة لأجل ما آذوه ، ولم يفرض عليه (٢) القتال ؛ ليكافئهم بأذاهم ، وينتقم منهم بذلك ؛ بل رجع قتاله إلى نصرة الدين ؛ ولتكون كلمة الله تعالى هي العليا ؛ لذلك لم يكن في آية السيف ما يوجب نسخ هذا ، ولا نسخ العمل بقوله : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) [البقرة : ١٠٩].
الثاني : أنه ليس في قتالهم انتقام منهم ، بل فيه ما يدعوهم إلى الإيمان بالله تعالى ورسوله ، وإذا آمنوا بذلك نجوا من العقاب ، وفازوا بعظيم الثواب ؛ فيصير القتال رحمة لهم لا عقوبة.
ووجه جعله رحمة : هو أنهم إذا رأوا غلبة المسلمين عليهم مع قلة عددهم والضعف الذي حل بأبدانهم ؛ لاشتغالهم (٣) بعبادتهم ربهم ، وكثرة عدد المشركين مع قوة أبدانهم ـ أيقنوا أنهم لم ينالوا الغلبة بالحيل والأسباب ؛ بل الله تعالى هو الذي قواهم عليهم ، وقام بنصرهم ؛ فيتقرر عندهم كون (٤) أهل الإسلام على الحق ، وإذا أيقنوا بالحق التزموه فيحرزون به جزيل الثواب ، وكريم المآب ؛ فصار القتال رحمة لهم ، لا أن يكون عقوبة عليهم ؛ لسوء صنيعهم ، وإذا كان كذلك ، بقي العمل بقوله ـ عزوجل ـ : (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) ثابتا باقيا ، وبهذا يجاب من سأل فقال : إن الله تعالى يقول لنبيه صلىاللهعليهوسلم : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [لأنبياء : ١٠٧] ، وفي القتال ترك الرحمة ؛ فكيف فرض عليه؟
فيقال أن ليس في القتال ترك الرحمة ؛ بل هو من أبلغ الرحمة وتمامها ؛ إذ يحملهم على الإيمان ، وترك التكذيب ؛ فتعلو منزلتهم ، ويشرف قدرهم في الدنيا والآخرة ، والله أعلم.
__________________
(١) في ب : إياه.
(٢) في أ : عليهم.
(٣) في أ : لاستثقاله.
(٤) في ب : بكون.