وجواب آخر : أن يقال بأن الحجة في القتال ليس في القتل ؛ لأنهم إذا خافوا القتال ، تركوا التكذيب ، وأقبلوا على الداعي ؛ ألا ترى أنه ذكر أن القوم قبل أن يفرض عليهم القتال ، كان يدخل الواحد منهم بعد الواحد في هذا الدين ؛ فلما شرع القتال ، جعلوا يدخلون فيه فوجا فوجا ، وقبيلة قبيلة.
ثم إباحة القتل يكون بالضرورة ؛ لأنهم إذا علموا [أنهم] لا يقتلون ، لم يقع لهم الخوف بالقتال ، وإذا لم يخافوا تركوا الإجابة ؛ فشرع القتل فيه ؛ لتحقيق الخوف ؛ فلم يكن فيه ترك الرحمة ، وهو كقوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [البقرة : ١٧٩] ، وفي إقامة القصاص تلف النفس ، وليس فيه إحياء ، ولكن وجه الإحياء فيه : هو أن القاتل إذا فكر [في] قتل نفسه بقتل صاحبه ، ردعه ذلك عن القتل ؛ فيكون فيه إحياء النفسين جميعا ؛ فيصير إيجاب القصاص سببا للإحياء في الحقيقة ، وإن كان في الظاهر سببا للإتلاف ؛ فكذلك هؤلاء إذا أيقنوا بالقتل بامتناعهم عن الإجابة ، تركوا الامتناع ، وأقبلوا على الإجابة ؛ فيكون موضوع القتل للرحمة في التحقيق ، وإن كان في الظاهر خارجا مخرج ترك الرحمة ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) ففيه أن أهل الخصب والرغد هم الذين اشتغلوا بالتكذيب ، وهم الذين كانوا يصدون الناس عن سبيل الله (١) ؛ كما قال : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) [الأنعام : ١٢٣] ، وقال : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) [سبأ : ٣٤] ؛ فخص أولي (٢) النعمة بالذكر لهذا.
ثم في قوله : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) إيهام بأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سبق منه المنع ، ولم يوجد من رسول الله حيلولة ومنع ، ولكن مثل هذا الخطاب موجود في كتاب الله تعالى في غير آي من كتابه ، وهو أن يخرج مخرجا يوهم أن هناك مقدمة ، وإن لم يكن فيها مقدمة في التحقيق ؛ قال الله تعالى : (وَالسَّماءَ رَفَعَها) [الرحمن ٧] ، ولم يكن فيه تحقيق الوضع ، وإن كان الرفع يستعمل في الشيء الموضوع ؛ فكان تأويل الرفع هاهنا بأنها خلقت مرفوعة.
وقال : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) [الرحمن : ١٠] ، ولم تكن مرفوعة فوضعها ، وكان معناه : أنها خلقت موضوعة.
وقال يوسف ـ عليهالسلام ـ : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [يوسف : ٣٧] ، ولم يسبق منه دخول في دين أولئك ؛ فيكون تاركا له بعد ما دخل فيه.
وقال الله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا
__________________
(١) في ب : سبيل الهدى.
(٢) في ب : أهل.