تحملوا أمرا لا يطيقونه ؛ ألا ترى الإنسان يحتمل القتل ، ولكن قتله يهلك طاقته.
وجائز أن يكون قوله : (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) [البقرة : ٢٨٦] ، أي : اعصمنا من الشهوات واللذات ؛ لئلا (١) نؤثرها ؛ فنكون مضيعين بارتكابها قوة الفعل الذي تعبدنا به ؛ فلا نصل إلى فعله ، وهذه هي القوة التي لا تزايل الفعل ، بل تطابقه ، وأما الفعل الذي هو خارج عن احتمال الوسع والطاقة ، فذلك هو الذي لا يقع بمثله التكليف.
وجائز أن يكون تأويل قوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) ، أي : لن تحصوا حد ما أمركم به ، لو أخذ عليكم في أمر بتقدير الثلث والنصف ، لم يمكنكم ذلك إلا بعد جهد ؛ ففرض عليكم قيام الثلث من الليل ، وجعل لكم الإمكان في أن تزيدوا عليه فيحيط عملكم بقيام الثلث ، ولو كان على حد واحد ، لم يمكنكم حفظه إلا بعد شدة وجهد ، وفي ذلك كلفة عسيرة.
ويؤيد هذا تأويل من قال : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) ، أي : لن تطيقوه ، وتكون الطاقة (٢) عبارة عن التعسير ، واشتداد الأمر.
ثم في هذه الآية دلالة على إباحة تعليق الحكم بالاستحسان ؛ لأنه قد فرض عليهم قيام ثلث الليل ، ولا يمكنهم تدارك الثلث بتقدير الإحاطة ، وإنما يمكنهم بالتقدير الذي يغلب على القلب ؛ فثبت أنه قد يجوز أن يكون الحكم معتبرا بما يقع في القلوب ، ويغلب على الظنون ، والاستحسان ليس إلا تعليق الحكم بما يغلب على القلوب.
والذي يدل على أن الحكم لازم بما ذكرنا : أن الله تعالى ألزم الحد على القاذف وعلى الزاني ، ولم يبين مبلغ وقوع الضرب فيه ، ولا ما يضرب به ، فقدر ذلك بما يقع (٣) في القلوب أن مثل هذا الضرب يصلح لمثل هذه الجناية ، وكذلك قيم الأشياء ، والأروش ، والنفقات ، وتسوية المكاييل ، والموازين يعتبر ذلك كله بغلبة الظنون من غير أن كان في شيء من ذلك أصل تقدر النوازل به وتنتزع منه ؛ فثبت أنه يجوز أن يحكم بالذي يغلب على القلوب ، وأن المجتهد يرجع إلى وجهين : مرة ينظر غيره فيتمثل بها ؛ فيسمى ذلك : قياسا ، ومرة يحكم فيها بما يغلب على الظنون ؛ فيسمى ذلك : استحسانا.
وفي هذه الآية دلالة أن سؤال من يسأل أبا حنيفة ـ رحمهالله ـ أن الوتر لو كان له مشابه في الفرض ، لكان لا يختلف لعدده ـ سؤال غير مستقيم ؛ لأنه قد فرض على القوم أن
__________________
(١) في ب : لأن.
(٢) في أ : الطاعة.
(٣) في أ : ينفع.