يقوموا ثلث الليل ، وقد أخبر ـ عزوجل ـ أنهم لا يحصون حد ما أمرهم به ، وإذا لم يحصوا فلا بد أن يقع هناك زيادة ونقصان ؛ فكذلك الوتر وإن كان حد عدده غير معروف فهو لا يخرجه عن حكم الفرائض ، والله أعلم.
ثم في قوله ـ عزوجل ـ : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) أن الله وقتما فرض عليهم علم أنهم لا يحصونه ؛ ولكن بيّن هذا ؛ ليعلموا أن لله تعالى أن يكلفهم إقامة العبادة إلى وقت لا يتهيأ لهم إحاطة مبلغ ذلك الوقت إلا بعد جهد ؛ ليعرفوا منة الله تعالى عليهم إذا أسقط عنهم ذلك التكليف ، وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) [الأنفال : ٦٦] ، ولكن ذكر هذا ؛ ليعلموا أنهم يكلفون القيام للعشرة وإن كان بهم ضعف ، لكن إذا خفف عنهم ، عرفوا ما لله عليهم من عظيم المنة.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) يحتمل أن تكون طائفة منهم امتنعوا عن القيام ؛ فتكون التوبة راجعة إليهم ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) ، فهذا يبين أنهم جميعا لم يقوموا معه ؛ وإنما قامت معه طائفة ؛ فتكون التوبة راجعة إلى الطائفة التي امتنعت عن القيام.
وجائز أن تكون راجعة إليهم ، وإلى الذين قاموا معه ؛ فيكون الذين قاموا معه قصروا [في] القيام عن الحد الذي شرط عليهم ؛ فافتقروا إلى التوبة ـ أيضا ـ كما افتقر إليها من تخلف عن القيام ؛ فتاب الله عليهم جميعا ، والله أعلم.
وقوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) :
فمنهم (١) من ذكر أن قيام الليل صار منسوخا بهذه الآية.
ومنهم (٢) من يقول بأن النسخ وقع بقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، وهي الصلاة المفروضة ، وليس بينهما فرق عندنا ؛ وإنما نسخ بهما جميعا.
ووجه النسخ : هو أن فرض القيام لو كان باقيا ، لكان لا يجوز لهم أن يكتفوا من القراءة بما تيسر عليهم ؛ لأنهم إذا قاموا إلى ثلث الليل لزمهم تبليغ القراءة إلى حدّ يتعسّر عليهم ويشتد ، فإذا أذن بالاقتصار على القدر الذي تيسّر ، علم أنه قد سقط عنهم أن يقوموا ثلث الليل. ثم هو إذا قام صلاة المغرب والعشاء قد قرأ من القرآن ما تيسر عليه ؛ فصار قاضيا لما اقتضاه قوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) ، فمن هذا الوجه استدلوا بهذه الآية على نسخ حكم القيام بالليل ، ثم هذه القراءة يقيمها في الصلاة ؛ فيكون النسخ واقعا بهما.
__________________
(١) قاله الحسن أخرجه عبد بن حميد عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٤٨).
(٢) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٣٥٣٠٤) وعبد بن حميد وابن نصر عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٤٨).