والمؤمن إذا عاين الثواب يلوم نفسه لما (١) أمسك عن المعصية وتاب ، وأطال المقام في المحراب ؛ وأبصر للعاملين بالطاعة حسن المآب ، وللعاصي نفسه بما شذ منه وغاب ، عند كمال القوة وعنفوان الشباب ، وقال : كيف لم أزدد في العمل ؛ لأزداد في الثواب!
ومنهم من خص الكافر في الآخرة باللوم على نفسه ، وهذا أظهر ؛ لأن المسلم إذا أكرم بالثواب فشكره لذلك يشغله عن اللوم [على نفسه](٢) ؛ فلا يتفرغ له.
ولأن الله ـ تعالى ـ يضاعف له من الحسنات ، ويعطيه من الدرجات زيادة على ما استوجبه بعمله ؛ فضلا منه وإنعاما ، فكيف يلوم نفسه بتقصيرها في العمل ، وهو يعلم أن ما وصل إليه من الكرامات ، لم ينل جملتها بعمله ، بل بفضل الله تعالى وبكرمه ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) :
فقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) وإن خرج مخرج الاستفهام في الظاهر فليس هو باستفهام ؛ ولكنه تحقيق حسبان من الإنسان ؛ فجائز أن يكون [ما] حمله على الحسبان هو أن القدرة لا تنتهي إلى هذا في أن تجمع العظام وتؤلف بعد تفتتها وتلاشيها ، فيدفع حسبانه هذا بقوله : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس : ٧٩] فمن تفكر في النشأة الأولى ، علم أن القدرة تنتهي إلى جمع العظام بعد أن صارت رميما ، وأن الذي قدر على إنشائها لقادر على جمعها بعد تفريقها.
وجائز أن يكون حسب أن العظام لا تجمع بعد تفريقها ؛ لأنها لو جمعت بعد التفريق ، لم تكن تفرق (٣) بعد أن وجدت مجموعة ؛ ألا ترى أن المرء في الشاهد لا يقصد إلى نقض ما بنى ؛ ليعيده مرة أخرى إلى الجهة المتقدمة ، ومن فعل ذلك كان عابثا في هدمه ، ولم يكن حكيما ، فإن كان هذا المعنى هو الذي حمله على الحسبان ، فجوابه أن يقال بأن الجمع الأول وقع لمكان المحنة والابتلاء ، والجمع بعد التفريق لمكان الجزاء ؛ فإذا كان الجمع الثاني لغير الوجه الذي وقع [له] الجمع في الابتداء ، كان مستقيما صحيحا ، وإنما يخرج عن حد الحكمة إذا لم تكن الإعادة إلا للوجه الذي وقع الابتداء [له] ؛ ألا ترى أن الذي نقض بناءه إذا أعاده لا للوجه الذي كان بني أول مرة ، لم ينكر عليه.
وفيما ذكرنا رد قول الباطنية ؛ لأنهم زعموا أن هذه الأنفس تتلاشى وتتلف ؛ فلا تبعث ،
__________________
(١) في ب : بما.
(٢) سقط في ب.
(٣) في أ : يعرف.