ذلك الشراب لا يعمل فيهم هذا العمل ؛ حتى يحملهم على الكذب والتكذيب ؛ كما يوجد في شراب أهل الدنيا.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فِيها) أي : في الجنة.
ثم قوله : (كِذَّاباً) قرأه بعضهم بالتخفيف في الموضعين هاهنا وفي : (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) [النبأ : ٢٨] وقرئ بالتشديد في الموضعين ، وقرأه بعض القراء بالتشديد في الأول ، وبالتخفيف في الثاني.
وعن الكسائي أنه قال : بالتخفيف لغة مضر ، وبالتشديد لغة يمانية ؛ يقولون : كذبه تكذيبا وكذابا ، وخربه تخريبا وخرابا ، ونحو ذلك ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) ، قوله : (جَزاءً) ، أي : جزاهم ، و (عَطاءً) : أعطاهم ، و (حِساباً) : حاسبهم.
وقال الحسن : جزاهم بأعمالهم ، أي : زادهم على القدر الذي استوجبوا.
وقال بعضهم : أعطاهم عطاء كثيرا حتى قال كل واحد منهم : حسبي ، حسبي.
والذى يؤيد هذا التأويل ما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه كان يقرأ : جزاء من ربك عطاء حسنا (١).
وقال بعضهم : جزاء بأعمالهم التي كتبت الحفظة ، وأحصتها عليهم ، وأعطى عطاء حسابا ؛ أي : كثيرا ؛ جزاء لما أخفوا من أعمالهم التي لم يطلع عليها ملائكة ، فأعطاهم عطاء بينا ظاهرا يعرفه الناس.
وجائز أن يكون الجزاء عطاء من ربه ، لا أنه يستوجب الجزاء ؛ لما ذكرنا أنه لا أحد من هذا البشر إلا وقد سبقت له من الله ـ تعالى ـ نعم ، لو أنفذ جميع عمره في أداء شكره منها ، لم يصل إلى كنه ما عليه من الشكر ؛ إذ من قام بالشكر ، ووفق عليه ، زيد له ـ أيضا ـ في النعم ؛ لمكان (٢) الشكر ، فإذا وصل إلى جزاء عمله في الدنيا ، لم يستوجب به المزيد ؛ فثبت أن الجزاء في الآخرة بحق الإفضال من الله تعالى والإنعام ، لا بحق الاستيجاب ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ ..). الآية [النساء : ٦٩] ، فسمى الكرامة : إنعاما ، وقال في آية أخرى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) [الحديد : ٢١] ، فجعل ما آتاهم من النعيم فضلا منه ؛ فثبت أن الذي جزاهم به عطاء من ربه حساب ، أي : كثير.
__________________
(١) في أ : حسابا.
(٢) في ب : بمكان.