بخلاف من لا طاقة له به ، وانتصب لمعاداته ، فذلك منه حمق وجنون في الشاهد ؛ فنسبوه إلى الجنون لهذا.
ومنهم من ذكر أنهم لم ينسبوه إلى الجنون لما ذكرنا ، ولكن شدة سفههم هو الذي حملهم على هذا ؛ فنسبوه إلى الجنون مرة ، وإلى أنه ساحر أخرى ، ومرة قالوا : علمه بشر ، ومرة قالوا : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) [ص : ٧] ؛ فكانوا ينسبونه إلى كل ما ذكرنا ، لا عن بحث منهم في حاله ، ولكن على السفه والعناد ؛ ألا ترى أنهم نسبوه إلى الجنون مرة ، وإلى السحر ثانيا ، وهما أمران متناقضان ؛ لأن الساحر هو الذي بلغ في العلم غايته ، والجنون هو النهاية في الجهل ، ولو كانوا يقولونه عن بحث وتدبر لكانوا لا يأتون بالمختلف من القول ؛ فيظهر جهلهم لمن يريدون صده عن اتباع النبي صلىاللهعليهوسلم ، بل كانوا يتفقون على كلمة واحدة ، فيصدرون عنها حتى يقع التلبيس منهم موقعه ؛ فيصلون إلى مرادهم من صد الناس عن اتباع النبي صلىاللهعليهوسلم.
وكذلك فيما زعموا أنه علمه بشر ، وأنه إفك افتراه ؛ أتوا بالمختلف من القول ؛ لأن اختلافه وافتراءه يثبت أنه عالم بنفسه ، مستغن عن تعليم غيره ، وحاجته إلى أن يتعلم من غيره تثبت عجزه وجهله عن الاختلاق بنفسه ، فهذا كله يدل على أنهم لم ينسبوه إلى الجنون لأعلام ظهرت لهم منه ، ولكنهم قذفوه بكل ما حضرهم ؛ سفها منهم وعنادا.
ثم إن كانوا نسبوه إلى الجنون لما غشي عليه عند ما رأى جبريل ـ عليهالسلام ـ على صورته فقد أتاهم بما لو تفكروا فيه لعلموا أنه ليس بصاحبهم جنة ؛ كما قال [الله](١) ـ تعالى ـ : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) [سبأ : ٤٦] ، وذلك أنه أتاهم بحكم عجز (٢) حكماء الإنس والجن [عن] إتيان (٣) مثله ، وأتاهم بكتاب عجز أهل الكتاب عن إتيان مثله ، فلو تفكروا فيه لعلموا أنه ليس من فعل المجانين ، ولا من علومهم ، ولكنه من عند الله أكرم به.
وإن كانوا بما نسبوه إلى الجنون لما خاطر بروحه ، فهم ـ بحمد الله تعالى ـ لم يتهيأ لهم أن يمكروا به ، ولا أن يقتلوه ؛ بل أظفره الله عليهم ، وأظهره على الدين كله ؛ فصار ذلك الوجه الذي به نسبوه إلى الجنون آية رسالته ، وعلم نبوته.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) قال الحسن : إنه صلىاللهعليهوسلم رأى ربه بقلبه ؛ أي : عظمته وسلطانه من وجه لا يقع به تشابه ، وخص بالأفق ؛ لأنه من الأفق تنزل البركات
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) في أ : بحكمة أعجز.
(٣) في ب : بإتيان.