ثم قوله ـ عزوجل ـ : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) يحتمل أوجها غير ما ذكرنا :
أحدها : أن هذا القرآن الذي جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم تلقاه من رسول كريم على الله ـ تعالى ـ فإذا لم تؤمنوا به ، ولم تقبلوه فما ذهبتم إلا إلى قول شيطان رجيم.
ويحتمل (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ)؟ وإلى من تفزعون إذا أتاكم بأس الله ـ عزوجل ـ ونقمته إذا لم تؤمنوا بالله تعالى ، وأنكرتم البعث ، ولم تصدقوا الرسول صلىاللهعليهوسلم فيما أخبركم به؟! فإذا حل بكم ما أنذركم به فإلى من تلجئون؟! وهو كقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الملك : ٢٨].
أو إذا لم تؤمنوا بالله ـ تعالى ـ ولم تتبعوا ما أتاكم به محمد صلىاللهعليهوسلم وقد تقرر عندكم صدقه أنما أتاكم من الآيات المعجزة ، فبأي حديث تصدقونه بعد ذلك وتذهبون إليه؟! وهو كقوله تعالى : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) [المرسلات : ٥٠]؟!.
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) معناه ـ والله أعلم ـ : أن هذا القرآن ذكر لمن شاء أن يستقيم من العالمين ، فهو في نفسه ذكر وآيات وهدى ، ولكن ينتفع بهذا الذكر من شاء الاستقامة ، ويهتدي به من طلب الهداية ؛ قال ـ تعالى ـ : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] وهو في نفسه هدى ، ولكن يهتدي بهداه المتقون ، ومن ليس بمتق فهو عمى عليه ورجس ، وقال : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) [يس : ١١] ، وهو كان ينذر من اتبع ومن لم يتبع ، ولكن معناه : أنه ينتفع بالذي تنذر به من اتبع الذكر ، وقال : آيات لأولي الأبصار ، وهي في أنفسها آيات ، ولكن ينتفع بآياته أولو الأبصار.
وقوله ـ عزوجل ـ : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) يحتمل وجهين :
أحدهما : أن (١) يحمل على تحقيق المشيئة ، ويكون تأويله : أن من أراد الاستقامة على أمر الله ـ تعالى ـ أو على الحق ، فهذا الذكر ـ وهو القرآن ـ يقيمه على الحق وعلى الأمر ، ويهديه إلى ذلك.
أو أن يكون هذا على تحقيق الفعل ؛ فيكون معناه : من استقام منكم على الحق والأمر فهو ذكر له.
والأصل أن المشيئة وصف فعل كل مختار ، وإذا كان هكذا ، صارت المشيئة مقترنة [بالفعل] ، فإذا فعل فقد شاء ؛ فكان في إثبات الفعل إثبات المشيئة ؛ لذلك استقام حمله على ما ذكرنا ، وهو أن يجعل أحدهما كناية عن الآخر.
__________________
(١) زاد في ب : لا.