ما روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، والآخرة سجن الكافر وجنة المؤمن» (١) ، فيرد كتابه إلى ذلك السجن ، ويرد كتاب الأبرار إلى الجنة التي أعدت له ، ثم تتبعه روحه ، ثم جسده ؛ فذلك قوله : (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) [المطففين : ١٨].
ومنهم من قال : [هو] على التمثيل ليس على تحقيق المكان في العليين ؛ وذلك لأن السجن هو مكان أهل الخبث في الدنيا ، فمثلت أعمالهم بذلك ؛ لخبثها وقبحها ، ومثلت أعمال الأبرار بما ذكر من العليين ، وذلك مكان أهل الشرف وأولي القدر ؛ فيكون ذلك كناية عن طيب أعمالهم.
وقال الكسائي : السجين : مشتق من السجن ؛ كقولك : رجل فسيق ، وشريب ، وسكيت.
ثم ذكر كتاب الفجار ، والفجور يكون بالكفر وبغيره ، فهذا اسم يقع به الاشتراك بين أهل الكفر وأهل الإسلام ، لكنه ألحق عند التفسير بما يوجب (٢) صرف الوعيد إلى الكفار بقوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ، وكذلك نجد هذا الشرط ملحقا بالتفسير في جميع ما جرى به الوعيد بالاسم الذي يقع به الاشتراك ؛ من نحو الفسق ، وترك الصلاة ، بقوله ـ تعالى ـ : (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) [المدثر : ٤٣] ، وفيما جرى من الوعيد في الذي لا يؤتي الزكاة ؛ فكان في ذكر التفسير على تقييده بالتكذيب قطع الشهادة وإيجاب العذاب على المكذبين ، وفي ذكر الاسم الذي يقع به الاشتراك إيجاب الخوف على المسلمين الذين شركوا في ذلك الاسم ، فترك قطع الشهادة عليهم بالوعيد ؛ لما (٣) لم يذكروا عند التفسير.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) فهو تعظيم ذلك اليوم ، ووصفه بنهاية الشدة ، أو على الامتنان على نبيه صلىاللهعليهوسلم أنه لم يكن يعلم ذلك حين أطلعه الله عليه ، وهكذا تأويل قوله : (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) [المطففين : ١٩].
وقوله : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) ، أي : الكتاب الذي في السجين مرقوم ، والمرقوم ، قالوا : مكتوب ومثبت.
والرقم عندنا : هو الإعلام ، يقال : رقم الثوب ؛ إذا أعلمه ؛ فجائز أن يكون علمه هو أن يختم ؛ فيكون فيه إخبار أنه لا يزاد على قدر ما عمل ، ولا ينقص منها ، وهو كما ذكرنا من
__________________
(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢٢٧٢) كتاب الزهد (١ / ٢٩٥٦) ، والترمذي (٤ / ٤٨٦) كتاب الزهد ، باب : ما جاء أن الدنيا سجن المؤمن. (٢٣٢٤).
(٢) في أ : بما يجوز.
(٣) في ب : بما.