يكن أعطي قوة الإيمان ، لم يكن يعاتب على تركه ؛ لأنه لا عذر للعبد أعظم من أن يقول إذا قيل له : لم لا تؤمن؟ (١) فيقول : لأني لم أقدر عليه.
ولأن قوله ـ تعالى ـ : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) حرف تعجيب ، ولو كانت القوة ممنوعة قبل الفعل ، لكان له أن يقول : إنما لم أؤمن ؛ لأني منعت عنه ؛ فيرتفع عنه التعجيب ؛ فدل أنه أعطي القوة ؛ فلم يبق له في التخلف عن الإيمان عذر.
والجواب عن الفصل الأول : أن الكافر إنما لحقته كلفة الإيمان ؛ لأنه هو الذي ضيع القوة باختياره فعل الكفر ، وإنما ترتفع الكلفة إذا منعت عنه الطاقة ، فأما إذا كان هو الذي ضيعها ، فالكلفة عليه قائمة.
والأصل أن القدرة في الصحيح السليم تحدث تباعا على قدر حرصه على العبادة وميله إليها.
ثم العبد متى اشتغل بفعل صار مضيعا لضده من الأفعال ، لا أن كان ممنوعا من (٢) الفعل الذي هو ضد هذا ؛ فلذلك إذا آثر الكفر ، وأتى به ، فقد صار باختياره الكفر مضيعا لقوة الإيمان ، لا أن صار ممنوعا عنها ؛ لذلك لحقته كلفة الإيمان.
وأما ما ذكر من أمر التعجيب فقد وصفنا وجه التعجيب في ذلك ، وهو أنهم لم يلزموا الكفر بحجة دعتهم إلى القول به ، والمرء إذا قلد مذهبا ـ قلده لا عن حجة وبرهان ـ تعجب الخلق باختيارهم الكفر لا عن حجة.
ثم لو كان الأمر على ما ظنت المعتزلة : أن الله ـ تعالى ـ قد أعطاهم جميع أسباب الهداية ، ولم يبق في خزانته شيئا منعه عنهم ، لكان التعجب راجعا إليه ، لا إلى الذين لم يؤمنوا ، فيقول : ما لي لا أصل إلى هدايتهم ، ولم يبق عندي شيء به هدايتهم إلا وقد أعطيتهم ، لا أن يعجب الخلق من (٣) صنعهم ؛ فليس الذي اختاروه في القول سوى وصفهم رب العالمين بالعجز ، والعاجز لا يصلح أن يكون ربّا ، والله الموفق.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) منهم من صرف التأويل إلى سجود الصلاة ، والمراد منه عندنا : سجود التلاوة ، وهو سجود الاستسلام والخضوع على الشكر ؛ لما أكرم المرء [به] من الإيمان وهدى الله ؛ لأن سجود الصلاة يكون عند فعل الصلاة ، لا عند ذكر التلاوة.
ثم في الآية دلالة وجوب السجدة على السامع ؛ لأنهم عوتبوا بتركهم السجود عند ما
__________________
(١) في أ : يؤمنون.
(٢) في ب : عن.
(٣) في ب : عن.