الحمد ـ أيضا ـ بالإحسان إلى مملكته ، فإذا ترك نصرهم وهو ممكن من ذلك ، فقد ترك إحسانه إليهم ؛ فصار به غير ممدوح ولا محمود ، والله ـ تعالى ـ استحق العز والحمد بذاته لا بأحد من خلائقه ؛ فلم يكن في إذلال أوليائه ما يوجب النقص في وصف الحمد ، ولا ما يوجب قصورا في العز.
والثاني : [أن](١) الدنيا وما فيها أنشئت للإهلاك ، ولعل الإهلاك بما ذكر أيسر عليهم من هلاكهم حتف أنفهم ، وكان في ذلك النوع من الهلاك نيل درجة الشهداء ، وهي التي ذكرها الله ـ تعالى ـ في قوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ..). الآية [آل عمران : ١٦٩] ، ولا ينال تلك الدرجة بموتهم حتف أنفهم (٢) ، فهذا أبلغ نصرا منه إياهم.
ثم للجزاء والعقاب دار أخرى فيها يظهر تعزيز الأولياء وقمع الأعداء ؛ فلم يكن [في](٣) ترك النصر في الدنيا ما يوجب وهنا ولا ذلا ، وأما ملوك الدنيا إذا تركوا نصرهم وقت ملكهم لأوليائهم ، لم يتوقع منهم النصر بعد ذلك ؛ إذ ليست في أيديهم إلا المنافع الحاضرة ؛ لذلك لحقتهم المذمة بترك النصر ، والله أعلم.
ثم ليس في إهلاك أولئك القوم الذين آمنوا واقتدارهم عليهم إيهام أنهم كانوا على الحق والصواب ، وأن المؤمنين كانوا على الخطأ ؛ لأن الإهلاك إنما يصير آية إذا كان على خلاف المعتاد ، وإهلاكهم لم يكن كذلك ؛ لأن عددهم كان كثيرا ، وكان في المؤمنين قلة ، وإهلاك الكثير للقليل غير مستبعد ؛ بل هو أمر معتاد ، وغلبة الفئة القليلة الفئة الكثيرة هي التي تخرج من حد الاعتياد ؛ فيكون فيها آية : أن الفئة القليلة على الحق والأخرى على الباطل ، وذلك نحو غلبة رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم بدر بمن (٤) معه من المسلمين مع قلة أعدادهم وضعفهم في أنفسهم ، وكثرة أتباع الكفرة وقوتهم وجلادتهم في أنفسهم ، والله أعلم.
ثم قوله ـ عزوجل ـ : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) ، أي : لم يكن من المؤمنين بمكانهم جرم لينتقم منهم بالإحراق سوى أن آمنوا بالله تعالى.
وقيل : ما عابوا عليهم ، وما أنكروا منهم سوى أن آمنوا بالله تعالى ، وفي هذا تبيين سفههم وعتوهم ؛ لأنهم علموا أن ما لهم من النعم كلها من الله تعالى ، وكان الذي يحق
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) في ب : أنفسهم.
(٣) سقط في ب.
(٤) في ب : من.