بتدبير مدبر حكيم ، لا بطبعها.
ثم الأعجوبة فيما فيه خلق الإنسان ليست بأقل من الأعجوبة مما منه خلق ، وذلك أن الإنسان خلق في الظلمات على ما أراد الله تعالى ، وصوره كيف شاء ، ولو أراد أحد أن يعلم علم ذلك ، أو يصور مثله في حالة العيان لم يملك ، وجعل ذلك المكان فيما ينمو فيه الولد ، ويغذو فيه خصوصا من بين سائر الأماكن ، ولو أراد حكماء الإنس والجن أن يعرفوا الوجه الذي به صلح ذلك المكان للنماء والغذاء ، وأعملوا (١) فيه فنون العلم ، لم يعرفوا ، فمن تفكر فيما ذكرنا ، علم أن قدرته ذاتية لا يلحقها فناء ولا عجز ، وعلم أن علمه ذاتي ليس بمكتسب ؛ فيتوهم خفاء الأمور عليه.
وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنْ ماءٍ دافِقٍ) يعني : النطفة التي يدفقها الرجل في الرحم ، والدافق : معناه : مدفوق ؛ أي : يدفق به ؛ كقولك : «ليل نائم» ، أي : ينام فيه ، و «هم ناصب» ، أي : ينصب به.
وقال الزجاج : (ماءٍ دافِقٍ) أي : ذي اندفاق.
وقوله ـ عزوجل ـ : (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) اختلف في تأويله :
فمنهم من يقول (٢) : بين صلب الرجل وترائب المرأة ، وهي الأضلاع الثمانية (٣) : أربع عن يمينها ، وأربع عن يسارها.
وقال بعضهم (٤) : (وَالتَّرائِبِ) هي الأطراف.
وقال بعضهم : (وَالتَّرائِبِ) موضع القلادة منها.
وقال بعضهم (٥) : (وَالتَّرائِبِ) ما دون التراقي وفوق الصدر.
ثم من الناس من صرف تأويلها إلى الرجل خاصة ، فقال : قوله : (مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) أريد به : صلب الرجل وترائبه ، وزعم أن الماء الذي يكون منه الولد ليس معدنه الصلب خاصة ؛ بل يجتمع من أطرافه كلها.
ومن حمله على المعاني الأخر صرف الأمر إليهما جميعا ، وهو أن الماء الذي يخلق منه الولد يكون منهما جميعا.
__________________
(١) في ب : وأعلموا.
(٢) قاله ابن عباس أخرجه عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٦٠) وهو قول عكرمة ، وابن أبزى أيضا.
(٣) في ب : اليمانية.
(٤) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٦٩١١) ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥٦٠).
(٥) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير عنه (٣٦٩١٩).