ولكن المعنى من ذلك كله والله أعلم : أن الله بعث رسوله أميّا في قوم أميين لا يعلمون الحكمة وماهيتها ، وجعل ذلك آية لرسالته وحجة لنبوته ؛ لأنه إذا كان أميّا لا يكتب ولا يقرأ الكتب ، ثم آتاهم الكتاب مؤلفا منظوما يوافق كتب أهل الكتاب دل أنه إنما علم ذلك بالوحي ، وأنه لم يختلقه من عند نفسه ، والله أعلم.
ثم الدليل على أنه كان رسولا إليهم جميعا قوله : (كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) [سبأ : ٢٨] ، وما روي عنه ـ عليهالسلام ـ أنه قال : «بعثت إلى الأحمر والأسود» (١) يعني : إلى الإنس والجن ، ولأجل أنه لما بعث إلى طائفة ليدعوهم إلى طاعة الله تعالى وعبادته ، علم أنه رسول إلى غيرهم ؛ إذا لم يكن لهم رسول آخر ؛ لأن الطائفة الأخرى إذ لم يكن لهم رسول آخر ، واحتاجوا إلى معرفة الأمر والنهي وإلى طاعة الرحمن حاجة الطائفة التي بعث إليهم ؛ دل أنه رسول إليهم جميعا ، والله أعلم.
وقوله : (بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ).
معناه : أنه بعث صلىاللهعليهوسلم في قوم أميين لا يعرفون عبادة الله ولا يقرءون الكتاب ، بل كانت عادتهم عبادة الأصنام.
وقيل في تأويل الأميين : هم الذين لم يؤمنوا بالكتب ، ولكن هذا فاسد ؛ لأن الله تعالى سمى نبيه ـ عليهالسلام ـ أميّا بقوله : (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧].
وقيل (٢) : سماهم : أميين ؛ لأنهم لا يقرءون الكتاب ولا يكتبون على الأعم الأغلب ، وإن كان فيهم القليل ممن يقرأ ويكتب ، ومن هذا سمي النبي صلىاللهعليهوسلم : أميّا ؛ لأنه كان لا يكتب ولا يقرأ في كتاب ولم يعلم ذلك ؛ قال الله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) [العنكبوت : ٤٨] ، وعلى ذلك روي عن النبي ـ عليهالسلام ـ : «الشهر هكذا وهكذا» وأشار بأصبعه ، وقال : «إنما نحن أمة أمية لا تحسب ولا تكتب» (٣).
وقال الزجاج : الأمي هو الذي لا يحسن القراءة والكتابة ولم يتعلم ، ويكون على ما
__________________
(١) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٨ / ٢٦١ ـ ٢٦٢) من حديث ابن عباس ، وقال : رواه أحمد والبزار والطبراني بنحوه ... ورجال أحمد رجال الصحيح غير يزيد بن أبي زياد ، وهو حسن الحديث ؛ وذكره أيضا من حديث أبي موسى وأبي ذر وابن عمر.
(٢) قاله قتادة أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير (٣٤٠٧٤) و (٣٤٠٧٥) وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٣٢١).
(٣) أخرجه البخاري (٤ / ٦٢٣) كتاب الصوم ، باب قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «لا نكتب ولا نحسب» (١٩١٣) ومسلم (٢ / ٧٦١) كتاب الصيام ، باب : وجوب صوم رمضان (١٥ / ١٠٨٠) من حديث ابن عمر بلفظ : «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ، الشهر هكذا وهكذا».