الحاجة ، ولم يستطيعوا أن يحجزوا السيول المتدفقة بل ضاعت سدى في وقت الفيضان في جوف الصحراء بعد أن هدمت مساكنهم وعاد الوادي قطعة من الصحراء الجرداء لا نبات به سوى أشجار لا تثمر إلا كل مر بشع ، وأثل لا غناء فيه ولا نفع ، ولم يبق إلا شيء من سدر قليل ، فقد بدل الله أفراحهم أتراحا ونعيمهم بؤسا وسرورهم حزنا ، وهربت العصافير والبلابل ، وخلفتها البوم والغربان تصحيح فوق الخرائب والقصور المتهدمة.
أما الأهلون الذين كانوا يرفلون في ثوب النعيم والاستقرار فقد نزحوا عن الديار ، وتفرقوا في البلاد حتى ضرب بهم المثل فقالوا : (تفرقوا أيدى سبأ).
ذلك ـ أى : التبديل والانتقال من حال النعيم إلى البؤس ـ جزاء بما كانوا يعملون ، فقد أعرضوا وكذبوا وكفروا بالله ورسله ، فكان هذا ، وهل نجازي إلا الكفور؟. فاعتبروا يا أهل مكة بهؤلاء!!
وبعد أن كانوا آمنين مطمئنين ينتقلون بين قراهم ومدنهم المتجاورة الآمنة بلا مشقة ولا خوف للرحلة والنزهة والتجارة القريبة ، فكانوا يسيرون فيها ليالي ذوات العدد ، وأياما قليلة في أمان وهدوء ، تعير الحال وتبدل ، وقالوا كفرا وبطرا : ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم ، فحق عليهم العذاب ، وتمت كلمة ربك فيهم ، وجعلناهم أحاديث للناس يضرب بهم المثل ، ومزقناهم كل ممزق ، وفرقناهم في صحراء العرب ، فكان منهم الغساسنة في الشام ، وقبائل أنمار في يثرب ، وجذام في تهامة والأزد في عمان.
إن في ذلك لآيات لكل صبار كثير الصبر على النعمة وغرورها ، شكور لله على ما تفضل ، فكثير من الناس أبطرتهم النعمة ، وأضلهم المال وغرهم بالله الغرور ، فاعتبروا يا أهل مكة ، ولا يغرنكم بالله الغرور!!
ولقد صدق عليهم إبليس ظنّا ظنه فيهم ، فإنه قال : لأغوينهم جميعا ، وقال لما طرد : لأحتنكن ذريته ، أى : آدم إلا قليلا ، فصدق ظنه فيهم ، واتبعوه في إغوائه إلا فريقا منهم هم المؤمنون (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (١).
وما كان لإبليس عليهم من سلطان وحجة تتسلط عليهم ، لكن كان ذلك لنعلم علم
__________________
١ ـ سورة الحجر آية ٤٢.