نزلت هذه الآيات عند ما غزا الفرس الرومان ، وغلبوهم في مشارف الشام مما يلي بلاد العرب ، ففرح بذلك مشركو العرب إذ قالوا : إن الفرس لا كتاب لهم مثلنا ، والرومان لهم كتاب مثلكم لأنهم من النصارى ، ولننتصرن عليكم كما انتصر الفرس فحلف أبو بكر بعد نزول الآية أن الرومان سيغلبون الفرس بعد هزيمتهم هذه ، فقالوا له : اجعل لنا موعدا ونراهنك على ذلك ، فضرب موعدا بسيطا ، ثم استشار النبي صلىاللهعليهوسلم فقال له : زد في الرهان ومد الأجل فإن البضع من ثلاث إلى تسع. ففعل وانتصر الرومان في السنة التاسعة ، وأخذ أبو بكر الجعل ، وتصدق به.
المعنى :
الم. غلبت الفرس الروم ، ولكن الروم من بعد غلبهم وهزيمتهم سيغلبون الفرس ، وذلك في بضع سنين ، وتلك الأيام نداولها بين الناس ، وكانت هاتان الدولتان هما المسيطرتان على العالم في ذلك الوقت ، إحداهما في الشرق وهي فارس والأخرى في الغرب وهي الروم ، وقد كانتا تتنازعان على السيادة على بلاد لستام وغيرها.
ولله الأمر كله من قبل هذا ومن بعده ، إذ الكل منه وإليه ، فلو كان الانتصار عن قوة ذاتية لما تخلف ، ولو كانت الهزيمة عن ضعف ذاتى لما تخلفت ، ولكنها إرادة الله وقدرته ، فاعتبروا يا أولى الأبصار! فلا تغرنكم قوتكم يا قريش ولا تستهينوا بقوة المسلمين على ضعفهم ، فلله الأمر من قبل ومن بعد ، وأما أنتم أيها المسلمون فثقوا بالله واعتمدوا عليه ، وتوكلوا فهو نعم المولى ونعم النصير.
ويومئذ ينتصر الروم وهم أهل الكتاب على فارس الوثنية يفرح المؤمنون لتحقق وعد الله ، إنه ينصر من يشاء ، وهو العزيز يعز أولياءه بقوته وقدرته. الرحيم بخلقه لا يدع القوى يتحكم في الضعيف.
وعدهم الله وعدا ، ووعده لا يتخلف ، وكيف يتخلف؟ وهو وعد من هو عالم بالأمور بواطنها وظواهرها ، قادر على كل شيء ، وله الأمر من قبل ومن بعد ، فثقوا أيها الناس بوعد الله فإنه متحقق لا محالة ، وما يحصل لكم أيها المسلمون فهو ابتلاء واختبار ، وتربية وتهذيب (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) [آل عمران ١٤١]