المعنى :
أنزل الله من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ، وانتفع بالماء من أراد الله له الخير. وكل على قدر طاقته ، وهكذا كانت الشرائع أشبه شيء بالماء ؛ فالماء يحيى موات الأرض ، ويزيل الضمأ والصدى ، والدين يحيى موات القلوب ويزيل ظمأها وصداها ، والناس معه مختلفون اختلافا بينا ، وما أدق التعبير القرآنى حين يتكلم على الدين واختلاف الناس فيه فيقدم له بالكلام على نظيره وشبيهه وهو الماء.
ألم تر وتعلم أن الله ـ سبحانه ـ أنزل من السماء ماء ، فأخرجنا من الأرض ثمرات مختلفا ألوانها فهذا رمان وذاك تفاح ، والصنف الواحد مختلف ألوانه فهذا أصفر فاقع ، وذاك أبيض ناصع ، وهذا أحمر قان. ألم تر إلى البرتقال واختلاف شكله ولونه وطعمه وحجمه ، وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل ، انظر إلى السر في قوله : فأخرجنا : وكان الظاهر أن يقال : فأخرج كما قال : أنزل من السماء ماء. ولعل هذا الالتفات والانتقال من أسلوب الغيبة إلى أسلوب التكلم في قوله : فأخرجنا لأن المنة بإخراج الثمرات مختلفة أبلغ من إنزال الماء وأظهر وأدل على كمال القدرة ، وشبيه بهذا تماما قوله تعالى فيما مضى في آية ٩ : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) ومن الجبال ما هو ذو طرائق مختلفة في الألوان مع أن الجبل كله من تراب أو صخر فمن الذي غير الألوان؟ منها ما هو أبيض ناصع وأحمر قان ، وأصفر فاقع ، وأسود قاتم ، وسود غرابيب ، فهذه ألوان مختلفة.
ومن الناس والدواب والأنعام صنف مختلف ألوانه اختلافا كثيرا في أصل الصفة ومقدارها ، مثل ذلك الاختلاف الذي رأيناه ، وكذا فيما يخرج من الأرض مع أن الماء واحد ، واختلاف الناس في خشية الله مع أن الله أنزل الدين عاما للجميع وطالب به الكل على السواء.
إنما يخشى الله من عباده العلماء ، فهم أحق الناس بخشية الله لأنهم أعرف الناس به وبقدرته وعظمته ، وهم أعرف الناس بيوم القيامة وما فيه ، ولذا كان من أوائل الناس عذابا يوم القيامة العلماء الذين لم يعملوا بما علموا.