المعنى :
الذي أوحينا إليك من القرآن هو الحق لا شك فيه ولا مرية ، حالة كونه مصدقا لما بين يديه من الكتب ، ومهيمنا عليه ، والله هو الذي وضعه هذا الوضع ، وأنزله على خاتم رسله محمد صلىاللهعليهوسلم لأن الحكمة والعدل يقتضيان ذلك والله بعباده خبير بصير.
أوحينا إليك الكتاب ثم أورثناه الذين اصطفينا دينهم واخترناهم من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله.
إلا أن هذه الآية فيها مشكل لم يخف على الصحابة والتابعين ، ولا على المفسرين وذلك أن قوله : ظالم لنفسه مع قوله : اصطفينا ، وقوله بعده : جنات عدن يدخلونها مشكل ، إذ كيف يكون ظالما لنفسه مع أنه من المصطفين؟! وكيف يدخل في قوله تعالى : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها)؟ ولقد تعرض لهذا الإشكال العلامة القرطبي في تفسيره ، وذكر عددا من الأقوال فروى عن عمر ، وعثمان ، وأبى الدرداء وابن مسعود ، وعقبة بن عامر ، وعائشة وخلاصته : أن الظالم لنفسه مؤمن عمل الصغار والمقتصد مؤمن أعطى الدنيا حقها والآخرة حقها ، ويكون قوله : جنات عدن يدخلونها تشمل الأصناف الثلاثة.
ومما يؤيد هذا قول كعب الأحبار : استوت مناكبهم ـ ورب الكعبة ـ وتفاضلوا بأعمالهم ، وما روى أسامة بن زيد أن النبي صلىاللهعليهوسلم قرأ هذه الآية وقال : «كلّهم في الجنّة» ، وما روى عن عمر بن الخطاب أنه قرأها ثم قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له».
وعلى هذا القول يقدر مفعول اصطفينا ـ كما قلنا أولا ـ اصطفينا دينهم ، فالاصطفاء موجه إلى دينهم لا إلى أشخاصهم (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) وخلاصة الآراء الأخرى : أن الظالم كافر أو فاسق أو مرتكب للكبيرة ، وهو لا يدخل الجنة ، والرأى الأول على ما أظن أحسن لأن الكافر والمنافق والفاسق لم يصطفوا ، وكفاه فخرا أنه رأى ستة من كبار الصحابة. ذلك أن إيتاء الكتاب لهم هو الفضل الكبير ، وأى فضل أكبر من هذا؟ جنات عدن يدخلونها مقيمين فيها إلى ما شاء الله يحلون فيها بعض أساور من ذهب ويحلون فيها لؤلؤا ، ولباسهم فيها حرير ، ولا شك أن نعيم الجنة فوق هذا بكثير ،