يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ، وهذا أعلى أسلوب وأدقه حيث قال : اجتنبوا كثيرا من الظن ، فإن من الظن ما هو مطلوب كالاحتياط في دفع الأذى عن النفس والمال ، والظن في استنباط الأحكام الشرعية ، والظن في وجوه الكسب والعمل كالذي يحصل من أصحاب العمل والتجارة ، أما الظن السيئ الذي نهانا عنه هو ما يحيك في نفوس بعض الناس بالنسبة لإخوانهم ، إذا رأى أحدهم عملا يحتمل في تأويله الخير والشر ، فيؤوله هو ويحمله على جانب الشر ، والذي دفعه إلى ذلك منافسة ومناظرة بينه وبين أخيه ، ويؤيده في ذلك اعتقاد خاطئ أن الناس كلهم شر وفساد فيتبرم بهم ويتنكر لهم ويظن بهم الظنون ، وهو داء استشرى بين الناس ، فنحن في حاجة ماسة إلى التمييز بين الظن الحسن بأنواعه والظن السيئ الكثير الوقوع ، وما أدق قول الله بعد ذلك : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) نعم هو موقع في الإثم والحرج ، وإذا كان بعض هذا الظن يوقع في هذا الإثم المبهم ، أليس من الحكمة والعقل البعد عن الكثير من هذا النوع؟ حتى نسلم من آثامه ، والنبي يقول في حديثه : «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من النّاس ، فمن اتّقى الشّبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ، ومن وقع في الشّبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه» والحديث وإن كان في أعمال الجوارح فخطرات القلوب وأعمالها أشد وأدهى.
والظن المنهي عنه هو ما يترتب عليه الإضرار بالناس ، أما ما ينشأ عنه من الاحتراس المأمور به والتحفظ الذي لا يضر الغير فهذا مطلوب ، وهو من الحزم «الحزم سوء الظّنّ» وقيل : حسن الظن ورطة وسوء الظن عصمة.
(وَلا تَجَسَّسُوا) هذا هو الدور الثاني للظن السيئ فإن الإنسان يظن بأفعال أخيه الظنون ثم ينظر فيها فلا يجد لها أسبابا قوية فيأخذ في البحث وتتبع العورات لعله يجد ما يؤيد ظنه ، وهو في ذلك إن رأى حسنة أعرض عنها ، وإن رأى سيئة شنع بها ، ذلك من ضعف الإيمان ، وسوء الاعتقاد ، ولقد صدق رسول الله حيث قال خطيبا : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه : لا تتّبعوا عورات المسلمين فإنّ من تتبّع عورات المسلمين فضحه الله في قعر بيته» نعم فإنه لا يعمل هذا إلا ضعيف الإيمان حقّا ، وليس المربى والراعي داخلين في ذلك حيث يتتبعان العورات للإصلاح لا لإشاعة السوء والتشنيع.