كل هذا حتى لا يفلت منه جزئى؟ إن ذلك لرجع بعيد جدا!! فيرد الله عليهم بأبلغ رد وآكده : ببيان علمه الشامل ، وقدرته الكاملة ، وضرب الشواهد المادية والأمثال على ذلك ؛ قد علم ربكم الذي خلقكم ورزقكم ، وخلق ما أظلكم وما حملكم قد علم علما أكيدا ما تأكل الأرض من لحومكم وعظامكم ، وما يتفرق منها في كل ناحية وهو العليم بكل شيء المحيط بكل ما في السموات وما في الأرض. وعنده كتاب حافظ لتفصيل كل شيء ، ولعل المراد بالكتاب تمثيل علمه تعالى بالكليات والجزئيات والأشكال والألوان وبكل شيء (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [سورة الملك آية ١٤].
(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) وهذا إضراب ـ أفاده لفظ بل ـ بل جاء بعد الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاءوا بأفظع وأشنع من تعجبهم السابق بالإنذار ، والمعنى أن هؤلاء كذبوا بالحق الذي هو القرآن أو النبوة مع قيام الشواهد المحسوسة والمعقولة على ذلك ، التي لا تقبل شكا ، كذبوا به بمجرد مجيئه من غير تفكير ولا روية وهذا تكذيب أفظع وأشد من الأول ، فهم في أمر مضطرب حيث أنكروا النبوة على الإطلاق مرة ، ومرة قالوا : إنه لا يستحقها إلا رجل غنى ، ومرة قالوا : إن النبي ساحر وتارة كاذب ، وأخرى كاهن ، وهذا شأن المتردد الذي يبنى حكمه على غير أساس.
وهذه مظاهر قدرته تعالى شاهدة عليهم : أغفلوا فلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بناها الله بقدرة قادرة وسواء قلنا : إنها جرم ـ وهو الأصح ـ أو قلنا بغير ذلك فهي بلا شك قد بنيت بإحكام ، ورفعت بدقة كاملة وقدرة واسعة. وكيف زينها بنجوم للناظرين ، وليس لها فروج ، وليس فيها شقوق ، ولا عيوب.
أفلم ينظروا أيضا إلى الأرض كيف بسطها وكورها ، وألقى فيها رواسى شامخات وأنبت فيها نباتا حسنا من كل صنف يأخذ الألباب ، ويستهوى القلوب ، ويسر الناظرين فعل ذلك كله تبصرة وذكرى لكل عبد تواب منيب ؛ وأنزل من السماء ماء مباركا كثير الخير والبركة ، كثير النفع والخيرات ، فأنبت منه جنات وعيونا ، وزروعا وكروما ، وأنبت به حب الزرع الذي يحصد كالبر والشعير والأرز وغيره ، وانظر إلى النخل الباسقات الفارعات ، لها طلع قد صف بعضه فوق بعض بنظام دقيق.