فالشمس مصدر الحرارة والحياة ، والقمر أساس معرفة الزمن ؛ والنجم الذي يطلع من الأرض ولا ساق له ، والشجر الذي يطلع وله ساق وفروع وهما يسجدان لله وينقادان له (١) ؛ والسماء خلقها مرفوعة العماد بلا عمد ، ووضع الميزان ، أى : شرع العدل وأمر به حتى انتظم أمر العالم واستقام كما قال صلىاللهعليهوسلم «بالعدل قامت السموات والأرض» فعل ذلك لئلا تطغوا في الميزان بأن تعتدوا وتتجاوزوا الحدود ، ولا تنقصوا الميزان ، بل كونوا عادلين فلا زيادة ولا نقصان ، والأرض وضعها وهيأها للأنام ، يعيشون فيها ويسكنون عليها ، ويتمتعون بكل ما فيها ، فيها فاكهة (٢) يتفكه بها ، وفيها النخل ذات الأكمام وفيها الحب ذو العصف والريحان ، أى : الرزق المأكول لأنه يرتاح له ، فكأن الآية تقول : خلق الأرض لكم فيها الفواكه وخاصة النخل ذات الأكمام ، وفيها الحبوب من قمح وشعير ذات العصف ، أى : التبن لعلف الماشية ، وذات اللب الذي هو رزقكم وأكلكم.
فبأى آلاء ربكما أيها الثقلان من الإنس والجن تكذبان؟! (٣) بأى نعمة من نعم مربيكما ومالك أمركما أيها الثقلان تكذبان؟ وتكذيب النعمة يكون بإنكار كونها من الله سبحانه مع عدم الاعتراف بكونها نعمة كتعليم القرآن ، أو بإنكار كونها من الله مع الاعتراف بكونها نعمة كالنعم الدنيوية ، والتعبير عن كفرهم المذكور بالتكذيب لأن دلالة النعم على الله ظاهرة ، وكأنها شاهدة بذلك فكفرهم بها تكذيب لها ، ولعل سائلا يسأل ويقول : لم هذا التكرار في قوله : فبأى آلاء ربكما تكذبان؟ والجواب : إنه إنما حسن التكرار للإقرار بالنعم المختلفة ، إذ كلما ذكر الله نعمة وبخ وأنكر على من كذب بها ، وهذا أسلوب معروف في الشعر والنثر العربي (٤).
__________________
١ ـ في لفظ يسجدان استعارة تصريحية تبعية حيث شبه جريهما على مقتضى الطبيعة بانقياد الساجد لخالقه وتعظيمه له واستعمل المشبه به في المشبه ... إلخ.
٢ ـ استئناف مسوق لتقرير ما أفادته الجملة السابقة.
٣ ـ الفاء لترتيب الإنكار والتوبيخ على ما فصل من أنواع النعم ، والاستفهام للإنكار.
٤ ـ هذه الآيات التي مرت من أول السورة إلى ما وقفنا نجد فيها فصلا بين جملة علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان مع أن موجب الوصل موجود وهو اتحادها في الخبرية ، وقصد التشريك حاصل ، ولكنه فصل للإشارة إلى أن كل جملة تضمنت نعمة مستقلة تقتضي الشكر وحدها ، وتوجب الإنكار على كفرها مع عدم التقابل بين الجمل ؛ وعطف قوله : والنجم والشجر على قوله : والقمر رعاية لتناسبها من حيث التقابل ولأن الشمس والقمر علويان ، والنجم والشجر سفليان ، والكل منقاد له وخاضع.