المعنى :
إن من أجل نعم الله على الإنسان أن يبين له نشأته الأولى ، ومادته التي خلق منها ليفهم الإنسان نفسه ، ويعاملها على أساس سليم ، وإذا عرف الداء فلن يعز عليه الدواء.
الله يقول : إنه خلقكم من تراب (كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) وقال (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وقال هنا : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) ومن هذا كله نفهم أنه أخذ تراب الأرض فعجنه بالماء حتى صار طينا لازبا ثم انتقل فصار كالحمإ المسنون ، ثم انتقل فصار صلصالا كالفخار ثم نفخ فيه من روحه جل جلاله فكان الإنسان ، ومن هنا نعرف أننا معشر بنى آدم من مادة طينية سوداء كالحمإ المسنون الذي جف حتى صار كالفخار في الصوت والضعف ، نعم (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) أمام الدنيا ومغرياتها وأمام المرأة ومفاتنها وأمام عرض الحياة وزخارفها ، فاعرفوا أنفسكم ، وقووا ضعفكم وانصروا دواعي الخير والفضيلة فيكم التي هي من دواعي الروح ، واحذروا إبليس فإنه من الجان ، وقد خلق من مارج من نار ، أليس لهب النار أحمق متعاليا مغرورا مدفوعا إلى الإيذاء؟ فاحذروا وسوسته واستعيذوا بالله منه ، ألست معى أن ذلك البيان من أجل نعم الله علينا؟! فبأى آلاء ربكما تكذبان؟!
هو رب المشارق والمغارب ـ إذ الشمس لها عدة مشارق ومغارب ـ ، وهو رب المشرقين ورب المغربين ـ أى : مشرق الصيف والشتاء ومغربهما ـ والشمس حين تشرق من مدار السرطان يكون الصيف في نصف الكرة الشمالي ، وحين تشرق من مدار الجدى يكون الصيف في الجنوب والشتاء في الشمال ، ولا شك أن مشارق الشمس ومغاربها وانتقالها من مدار إلى مدار من أجل النعم علينا إذ لو بقيت كما هي في شروق واحد وغروب واحد لتعطلت نواميس الحياة ، وتعطلت زراعة الصيف أو الشتاء ، ولقل العمران ، ألا ترى إلى سكان خط الاستواء وسكان المناطق الشمالية والجنوبية (١) التي يظهر عندهما المشارق والمغارب ، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟ هو الذي مرج البحرين العذب والملح يلتقيان في مصاب الأنهار بينهما حاجز من اليابس لا يبغيان على بعضهما ولو شاء لاختلطا فضاعت فوائد الملح وعذوبة الماء العذب ، فبأى آلاء
__________________
١ ـ المراد : المناطق التي هي حول مدار السرطان ومدار الجدى لا المناطق القطبية.