وما أروع لفظ (وَما يَسْطُرُونَ) حيث يشمل كل فنون الكتابة والتعبير عما في الضمير بالرسم والتصوير ، ويشمل كل آلة أو نظام استحدث للتوصل إلى ذلك من آلات ومعدات حدثت أو ستحدث ، وهكذا القرآن ، لأنه صادر من علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما سيكون من البشر ، تجده يختار العبارات التي تشمل كل المخترعات ألا ترى إلى قوله : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) [سورة النحل آية ٨].
ولعلك تدهش حين تعلم أن هذه السورة من أوائل السور نزولا ، وكانت سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) أول سورة نزلت ، ولكن لا غرابة فهذا دين سماوي يعرف مقدار الكتابة والقراءة وأثرهما في نظام الدنيا ، ثم يكون هذا كله على يد نبي أمى عربي لا يقرأ ولا يكتب؟ وأقسم الله بالقلم وما يسطرون به ما أنت يا محمد ـ بنعمة ربك وفضله ـ بمجنون ، كما يصفك هؤلاء المشركون ، وكأن المعنى : انتفى عنك الجنون بسبب ما أنعم الله عليك من خلق كريم ، ورعاية من ربك الرحمن الرحيم ، وكيف تكون مجنونا ، وأنت العاقل الصادق الأمين ، بإقرارهم جميعا؟! وكيف ذلك؟! وإن لك لأجرا غير مقطوع ، إنه عطاء غير محدود ، على ما قمت به من تبليغ الرسالة وأداء الأمانة ، وما تحملت في سبيل ذلك من عنت وإرهاق ، كيف يكون مجنونا من يقوم بعبء هذه الرسالة؟! والحال أنك على خلق عظيم ، وإذا شهد الله هذه الشهادة فهل بعد ذلك شيء.
إذا كان الأمر كذلك ، وأنك في عناية الله ورعايته ، وأنك خاتم رسله وإمام أنبيائه فستبصر ويبصرون حقيقة الأمر ، وأن الله مع المؤمنين ، وهو ناصر رسله على الكفار والمشركين ، وقد كان المشركون يعتزون بعددهم وأموالهم وأولادهم ويسترسلون في إيذاء النبي صلىاللهعليهوسلم وربما تأثر النبي بشيء من ذلك ، ولكن الله يطمئنه ـ ووعده الحق ـ أن النصر في جانبه ، وأن الدائرة عليهم.
فستعلم ويعلمون : من منكم هو المجنون؟ (١) ، وهذا كلام مبنى على التعريض بالمشركين بأن الجنون فيهم لا يعدوهم إلى غيرهم ، ووصفه تعالى لهم بالجنون مشاكلة ،
__________________
١ ـ هذا هو المعنى المراد من قوله «بأيكم المفتون» وللوصول إليه قلنا بأن الباء صلة ، أى : زائدة ، ويصح أن نقول : إن (المفتون) ليس اسم مفعول ولكنه مصدر كالمعقول.