إذا كان الأمر كذلك فاصبر يا محمد صبرا جميلا لا قلق معه ، فإن الموعود به حاصل لا محالة ؛ إنهم يرون العذاب الذي يتوعدهم به النبي بعيدا زمانه ؛ ونراه قريبا. يوم تكون السماء كدردي الزيت أو مائع النحاس أو الحديد المذاب في النار ، والمراد تغير الوضع واختلاف الحال ، وتكون الجبال كالصوف المندوف (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ* وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [سورة القارعة الآيتان ٤ و ٥].
هذه حال السماء والأرض في ذلك اليوم ، أما حال الخلائق فهي كما وصف الله ، الناس في شغل شاغل فلا يسأل حميم حميما ، ولا قريب قريبا إذ كل عنده ما يغني (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (١) هل هم لا يسألون أحماءهم وأقاربهم لأنهم لا يرونهم؟ الجواب : إنهم يبصرونهم أى : قد جعلهم الله لا يبصر بعضهم بعضا ، ولكن لكل منهم ساعتها شأن يشغله عن أى شيء آخر ، ومع هذا فيود كل امرئ منهم من صميم قلبه لو يفتدى نفسه من هول ذلك اليوم بأحب الناس إليه وأعزهم عليه كأولاده وزوجته وإخوته وعشيرته التي تؤويه بل يود لو يفتدى نفسه بمن في الأرض ، ثم ينجيه من هذا العذاب البئيس الذي هو فيه (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [سورة المائدة آية ٣٦].
وكأن المكذبين بيوم الدين السائلين عن العذاب المستعجلين له ، يتعللون بالأمانى الكاذبة ، وأنهم يفدون أنفسهم من هذا العذاب ، فكذبهم القرآن وردعهم عن هذا بقوله : «كلا» إن جهنم التي أعدت لهم نار محرقة ، لهبها شديد لا منجى منها ولا هرب ، تكون نزاعة للأطراف من الأرجل والأيادى ، وتنزع كذلك فروة الرأس ، فما أصبرهم عليها!! هذه النار تدعو من أدبر عنها وتولى ، أو من أدبر عن الحق وأعرض عنه في الدنيا ، هذا الدعاء على حقيقته كما روى عن ابن عباس أو هو مجاز (٢).
وتدعو من جمع المال فجعله في وعاء وحفظه وكنزه ولم يؤد حقوق الله فيه ، فليس الجمع وحده معيبا ، وإنما المعيب الجمع مع عدم إخراج حقوق الفقراء والمساكين فيه.
__________________
١ ـ سورة عبس الآيات ٣٤ ـ ٣٧.
٢ ـ حيث شبه تهيؤ جهنم وظهورها للمكذبين وتفتح أبوابها ووقوف الخزنة عليها شبه هذا بالدعاء والطلب لهم ، وهذا ما يسمى بلسان الحال ، وهذا كثير الشيوع في لسان العرب.