مثل ذلك يضل الله من يشاء ويهدى من يشاء ، ويهدى من أراد لهم ذلك لأنهم على استعداد للخير أو الشر ، وقد ساروا بمحض اختيارهم في أحد السبيلين.
وما يعلم جنود ربك إلا هو ، نعم لا يعلم خلقه إلا هو ، وجنود ربك التي هي وسائط في تنفيذ إرادته وأحكامه من الأمور الغيبية التي نؤمن بها فقط.
وما سقر ووصفها بهذا إلا ذكرى وموعظة للبشر ، فيخافون ربهم ويبتعدون عن عقابه وعذابه ، أما حقيقتها فشيء لا يعلمه إلا الله.
يكاد المفسرون يجمعون على أن قصة التهديد السابقة نزلت في الوليد بن المغيرة فإنه كان كثير المال والولد عظيم الجاه قوى النفوذ ، وكان له عشرة أولاد يحضرون مجلسه لكبر سنهم ورجاحة عقولهم ، ويقيمون معه لا يغادرون مكة لغناهم وثرائهم.
ولما اشتد الأمر رأى زعماء الشرك أن دعوة النبي محمد آخذة في الانتشار ، وأن محمدا سيجتمع بوفود العرب وسيكلمهم في الإسلام. اجتمعوا للتشاور فيما يقولون ليردوا به العرب عن الإسلام ، فقال قائل : نقول : إنه شاعر ، وقال آخر : لا ، إنه كاهن ، وقال ثالث : لا ، إنه مجنون ، وقال رابع : لا ، إنه كذاب! كل هذا والوليد يسمع ولا يتكلم فقالوا له : ما لك لا تتكلم؟؟ فقال : لقد سمعت محمدا يقرأ كلاما ما هو بكلام الإنس ولا الجن ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه ليعلو وما يعلى عليه ، وما يقول هذا بشر. فكان لهذا الكلام وقع شديد على المجتمعين ، وقالوا : لقد صبأ الوليد ـ أى : ترك دين آبائه وأجداده ـ ولتصبأن معه قريش ، وتفرق الجمع وكلهم حزين أسيف.
ولكن أبا جهل ذهب لدار الوليد يحتال عليه وأخذ يكلمه بكلام يثير فيه الحمية الجاهلية ، والنخوة الكاذبة فقال له : لقد تركنا قريشا تجمع مالا حتى تكفيك تعرضك لمحمد وماله ، فقال الوليد : لقد علمت قريش أنى من أكثرها مالا ، فهل أنا محتاج لكسر محمد اليتيم؟ قم بنا إلى دار الندوة ، ولأقول كلاما أصحح به وضعي.
اجتمع الناس فقال الوليد : إن محمدا ليس بشاعر ، ولا كاهن ، ولا كاذب ـ لقد وصف القرآن الوليد في تلك اللحظة الرهيبة وصفا دقيقا جدّا ـ فقال :