ولما كان قوله محض افتراء ، ونهاية الإعراض عن الحق والإيمان ، وكان ناشئا عن كبر وغمط للحقوق عبر عنه القرآن بقوله : ثم أدبر واستكبر ، فماذا قال؟ قال : إن الكلام الذي سمعته ما هو إلا سحر يؤثر عن السحرة من البابليين والآشوريين والمصريين ، ثم أكد رأيه بأنه سحر معروف وليس من كلام الله بقوله : ما هذا إلا مثل قول البشر الذين عاشوا في القرون الماضية.
ما جزاء هذا؟ سأرهقه صعودا ، سأصليه سقر (١) وما أدراك؟ ما سقر (٢)؟ أى شيء أعلمك ما سقر؟ وهذا استفهام يراد به التعجب من هول سقر ، وأنه مهما فكر فيها المفكر لا يمكنه أن يعرف من أمرها إلا ما عرفه الوحى من أنها لا تبقى على شيء يلقى فيها إلا أهلكته ، ولا تذر أحدا من الفجار يفلت منها ، وهي لواحة للبشر تجعل أجسامهم قطعا سوداء متغيرة ، عليها تسعة عشر ، وهم خزنتها الموكلون بخدمتها وهل هم تسعة عشر ملكا أو صنفا أو صفا أو نقيبا؟ الله أعلم بذلك ، وليس لنا أن نبحث في ذلك بعد قوله تعالى : وما أدراك ما سقر؟ على أن المخاطب بذلك سيد البشر.
وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ، أى : ليسوا بشرا ، وهذا رد على من قال : سأكفيكم هذه الآية : ثكلتكم أمهاتكم ، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد من هؤلاء!! فيرد الله عليهم : ليس هؤلاء بشرا بل هم ملائكة ، فاسألوا عنهم عادا وثمود وأهل قرى قوم لوط ، فإنهم يعرفون الملائكة وقوتهم.
وما جعلنا عدتهم ـ تسعة عشر ـ إلا ابتلاء واختبارا للناس ، وكانت فتنة وضلالا وإعراضا عن الحق ، حيث كفر المشركون بهذا وضلوا ، فكانت عاقبة أمرهم ضلالا وإعراضا. أما المؤمنون بالنبي صلىاللهعليهوسلم من المسلمين وأهل الكتاب فازدادوا يقينا على يقينهم ، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون بل هم متيقنون ، وكان ذلك ليقول الذين في قلوبهم شك ونفاق كالمنافقين ، وليقول الكافرون بالوحي : ماذا أراد الله بهذا؟ أى : ماذا أراد الله بهذا القول ـ عدتهم تسعة عشر ـ الذي يشبه المثل في الغرابة والبداعة؟ فيخوفنا بواسطته من سقر وخزنتها التسعة عشر.
__________________
(١) تعرب هذه بدلا من الأولى بدل اشتمال.
(٢) ما أدراك (ما) مبتدأ و (أدراك) خبر ، وجملة (ما سقر) ساد مسد المفعول الثاني لأدرى ، وإعرابها خبر مقدم وسقر مبتدأ مؤخر.