المعنى :
هل أتى على الإنسان وقت من الزمن لم يكن شيئا مذكورا؟ وقد علم الله أنهم يقرون فيقولون : نعم قد أتى عليه ذلك ، فيقال لهم : الذي أوجده من العدم بعد أن لم يكن كيف يمتنع عليه إحياؤه من العدم (١)؟ والإنسان من حيث هو إنسان مر عليه حين من الدهر كانت الكرة الأرضية خالية منه ، وهذا الزمن لا يعلمه إلا الله.
هذا الإنسان الذي خلق من العدم كيف خلق؟ يقول الله ـ تعالى ـ مجيبا ومؤكدا : إنا خلقناه من نطفة أمشاج ، يا سبحان الله! يقول الله تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة موصوفة بأنها أخلاط ، فيها نوازع الخير والشر كامنة ، وفيها صفات للإنسان مختلفة ، وفيها اتجاهات له متباينة. ولو شاء ربك لجعل الناس على نظام واحد وطريقة واحدة كلهم للخير أو كلهم للشر ، ولكنهم لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ، ولأجل هذا الاختلاف خلقهم ، فبه يعمر الكون ، وتكون الدنيا والآخرة.
خلقنا ربك من نطفة فيها أخلاط ليبتلينا ، إنا خلقناه من نطفة أمشاج حالة كوننا مريدين ابتلاءه واختباره فيما سنكلفه به من شرائع.
ولهذا جعلناه سميعا بصيرا ، أى : فترتب على إرادة الابتلاء أن خلق الله فينا قوة العقل والإدراك لنميز بعقولنا التي كان طريقها المهم السمع والبصر ، ولكن هل يكفى العقل وحده لإدراك الخير والشر؟ لا .. ولهذا قال : إنا هديناه السبيل العام ، أى : دللناه وبينا له طريق الخير وطريق الشر بواسطة الشرائع والرسل بعد أن منحناه العقل والنظر.
فالله ـ سبحانه ـ خلق الإنسان ، وفيه نوازع الخير والشر ، والاتجاهات المختلفة المتباينة ثم رزقه عقلا وفكرا ، وأرشده بعد ذلك إلى سبيل الخير والشر بواسطة الكتب والرسل .. إنا هديناه السبل حالة كون الإنسان إما شاكرا وإما كفورا ، فهو بعد ذلك إما شاكرا لربه نعمه سالكا سبل الخير مستحقّا دار الكرامة ، وإما كفورا لنعم ربه لم يقم بحقها فكفر وكذب وعمل سيئا ، فاستحق دار الإهانة ، وهذا ما أعد لكل من الفريقين فريق الشاكرين وفريق الكافرين. إنا هيأنا للكافرين في جهنم سلاسل توضع في أرجلهم وأغلالا في أيديهم وأعناقهم : ونارا مستعرة يصلونها وبئس القرار قرارهم.
__________________
(١) هذا المعنى على أن (هل) استفهامية ، وهي تفيد التقرير ، وبعضهم يقول : إنها بمعنى (قد) وتفيد التقرير ، والمآل واحد على المعنيين.