وفي هذا الوقت العصيب أغرى حيي بن أخطب كعب بن أسد القرظي على نقض العهد الذي بينه وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم وامتنع في أول الأمر ثم مال إلى النقض ، ويا ليته لم ينقض ، ولكنهم اليهود لا أمان لهم ولا عهد ولا ذمة ، وأقام الأحزاب في مكانهم والمسلمون أمامهم مدة ، ذاق فيها المسلمون الأمرين ، مما رأوا من تجمع العرب ، ونفاق اليهود ونقضهم العهد وإظهارهم ما كانوا يخفون حتى قال بعضهم : إن بيوتنا عورة فلننصرف فإنا نخاف عليها ، ومنهم من قال : يعدنا محمد بفتح كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه يذهب إلى الغائط.
أقاموا على هذا الحال قريبا من شهر ، وليس بينهم حرب إلا الرمي بالنبال والحصى ، ولقد اشتد على النبي ذلك المقام فبعث إلى عيينة بن حصن الفزاري وإلى الحارث بن عوف المري ليفاوضهما على ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما ويخذلان قريشا ويرجعان بقومهما عنهم ، ولكن الأنصار أبوا ذلك قائلين : والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم ، فسر الرسول لذلك ووافقهم.
وفي هذا نزل قوله تعالى : (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا* هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) وهذا تصوير لحالة المسلمين تصويرا دقيقا.
وكره بعض فوارس مكة أن يقفوا معطلين فأخذوا يدورون حول الخندق يتحسسون نقطة ضعف ، وقد وجدوا فضربوا خيلهم فاقتحمت الخندق ، ورأى المسلمون في ذلك خطرا عليهم فأسرع على بن أبى طالب ومعه جماعة من الفرسان ليسدوا هذه الثغرة .. وكانت مبارزة بينه وبين عمرو بن عبد ود انتهت بقتله ، فلما عرف صاحباه عكرمة بن أبى جهل وضرار بن الخطاب فرا وخرجت خيل المشركين من الخندق منهزمين هاربين.
وفي هذه الآونة الشديدة وقع ثقل المقاومة على المؤمنين الخلص الذين كانت قلوبهم عامرة بالإيمان ونفوسهم في سبيل الدفاع عن الحق أشد من الصخرة صلابة وقوة.
ولما وقف المؤمنون الموقف المشهود ، ودافعوا دفاع الأبطال ، وابتلاهم الله فوقفوا وصبروا وصابروا أراد ربك أن يصرف عنهم السوء ، وأن يتم نعمته عليهم ويكفيهم شر القتال على أحسن صورة وأكمل وضع ، فألقى في قلوب المشركين الخوف وأوقع فتنة بينهم ، وقام نعيم بن مسعود ـ وكان مشركا فأسلم ، وكان محبوبا من الطرفين ـ بدور