فمنها الهداية التكوينيّة السارية في جميع ذرأت العالم على الوجه الأتم لا يشذّ عن حكمه شيء من العمق الأكبر وهو سرّ الحقيقة ومفتاح الطريقة ، وبحر القدر الذي من غرق فيه فقد كفر ، وإليه الاشارة بقول أمير المؤمنين عليهالسلام حيث سئل عنه : بحر عميق فلا تلجوه ، طريق مظلم فلا تسلكوه ، سرّ الله فلا تتكلّفوه (١).
وهو المشار اليه بقوله تعالى : (الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٢) وبقوله : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٣).
وهذه الهداية كانت في أرض الإمكان قبل خلق الأكوان والأزمان ، وهي الأرض الجرز الّتي ساق الله اليه ماء الوجود الذي أخرج الله به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم ، (بضم الفاء أو بفتحها) ، فإنّ البدن مركب الروح ، وهو أنفس من البدن ، والقلب أنفس من القالب ، ورسول الله أنفس من ساير الخلق ، ولذا قرأ الإمام عليهالسلام بفتح الفاء في قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) (٤).
وهي الهداية المكتوبة على جميع ذرّات الكائنات من المجردات والماديّات ، السعداء والأشقياء في الذرّ الأوّل ، فاهتدوا أوّلا الى قبول الوجود وهو الإيجاد بالاختيار والشعور ، ثمّ إلى قبول الاستعدادات والقابليّات والشؤون الصلوحيّة الاختياريّة.
وإنّما كان هذا بعد عرض جميع مراتب الكون على كلّ شيء فاختار كل شيء شيئا ، فخلقهم كما كانوا لعلمهم بما كانوا أى تكونوا واختاروا في رتبة الانوجاد والقبول لأنفسهم ، فلا جبر في الإيجاد والتكوين ، ولا إكراه في الدين ،
__________________
(١) نهج البلاغة باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليهالسلام رقم ٢٨٧.
(٢) الأعلى : ٣.
(٣) طه : ٥٠.
(٤) التوبة : ١٢٨.