وقد يقال : إنّ قضيّة جملة من الآيات قدم المعاني الشرعيّة (١) ومعرفة أهل اللغة لها. فدعوى كون الألفاظ حقائق لغويّة فيها تكون قريبة جدّا. فمن الآيات قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(٢) ومنها قوله تعالى : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا)(٣) ومنها قوله تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ)(٤).
ويردّه أوّلا : أنّ ذلك مبنيّ على كون الألفاظ في هذه الآيات مستعملة في المعاني الشرعيّة ، وهو غير ثابت ، وظهور الآية الأولى في اتّحاد المكتوب في حقّ الأمّتين لا يجدي ؛ إذ لعلّ اتحاد المكتوبين يكون اتّحادا جنسيّا وفي مجرّد الإمساك ـ وإن كان هذا عن الأكل وذاك عن الكلام ـ كما يقال : «في الحمّام اليوم إنسان ، كما كان في الأمس إنسان».
وثانيا : أنّ غاية ما تقتضيه الآيات ثبوت المعاني في بعض الشرائع السابقة ، فلعلّ الشريعة التي كانت فيها هذه المعاني كانت متأخّرة عن عصر واضع اللغة ، فلم يكن واضع اللغة يعرف هذه المعاني ليضع لها لفظا.
وثالثا : سلّمنا قدم المعاني ، لكن ذلك لا يلازم معرفة واضع لغة العرب لها.
ورابعا : سلّمنا معرفته لها ، لكن ذلك لا يستلزم وضع هذه الألفاظ لها.
نعم ، لا يبقى الوثوق حينئذ بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، لكن يمكن تحرير هذا البحث حينئذ بنحو آخر ؛ فيقال : هل هذه الألفاظ المبحوث عنها انحصرت في شريعتنا في هذه المعاني وهجرت معانيها اللغويّة ، أم لا؟ وأثر الانحصار حينئذ أثر ثبوت الحقيقة الشرعيّة على التقدير الأوّل.
نعم ، أثر عدم الانحصار يكون هو الإجمال ، دون الحمل على المعاني اللغويّة الأوّليّة.
__________________
(١) كالصلاة والصوم والزكاة من المعاني الشرعيّة.
(٢) البقرة (٢) : ١٨٣.
(٣) مريم (١٩) : ٣١.
(٤) الحجّ (٢٢) : ٢٧.