وأنت إذا تأمّلت الأفعال الاختياريّة وجدت فيها ما ذكرناه بأشدّ وضوح ، فمن لبس جبّة أو فراء توقّيا من البرد كان مقصوده ومتعلّق إرادته التوقّي بتلك الجبّة والفراء دون سائر الموقّيات التي لم يصطنعها ، أو [من] علّق شمعة كان مقصوده ومتعلّق إرادته الاستضاءة بضوء تلك الشمعة لا كلّ ما هو مضيء ، وهلمّ جرّا.
نعم ، قد يكون المقصود الأصلي عامّا ومع ذلك لا يرتّب المقدّمات على حسب سعة مقصوده وبمقدار واف بمقصوده لعجز منه عن ذلك ؛ ومثل هذا في الواجبات يسمّى واجبا توصّليّا ، كما أنّ الأوّل يختصّ باسم التعبّدي.
لكنّ هذا لا يتصوّر في أوامر الشارع الذي لا يتصوّر عجز في مقامه ، فلذا صحّ القول منّا بأنّ كلّ أوامر الشارع أوامر تعبّديّة ، والانقسام إلى القسمين يكون في أوامر غيره. فالأمر التوصّلي هو ما كان المقصود الأصلي ومتعلّق الإرادة فيه أوسع مما تعلّقت به الإرادة البعثيّة ، أعني الفعل الحاصل بداعي البعث وتحريكه (١). فالمراد عامّ ومتعلّق البعث خاصّ ، فلذلك يسقط التكليف بكلّ فعل ولو لم يكن بداعي البعث ، بل [لو] لم يكن فعلا اختياريّا للمكلّف ، بل [ولو] لم يكن فعلا له أصلا ، كغسل الثوب الحاصل بإطارة الريح وإلقائه في البحر.
ولازم ما ذكرناه هو أن تكون التعبّديّة بدخل داعي الإرادة في متعلّق الإرادة ، لكنّ إحدى الإرادتين غير الاخرى فلا يلزم منه المحذور المتقدّم ؛ فإنّ الإرادة الداعية هي الإرادة البعثيّة الطلبيّة المقدّميّة ، والإرادة التي أخذ هذه في متعلّقها هي الإرادة الأصليّة ، يعني أنّ المولى في يومه الأوّل يريد ما يبعث إليه طلبه ـ وما هو أثر مقدّماته ونتيجة أعماله ـ لا يريد أوسع من ذلك ، وما هو أثر البعث هو الفعل الحاصل بداعي البعث ، وأمّا الحاصل بدواع أخر فليس هو أثر البعث ، فليس هو داخلا تحت إرادة المولى.
نعم ، هذا يتوقّف على كون بعث المولى بنفسه باعثا مع قطع النظر عن تلك الإرادة الواقعيّة ـ بل وإن خلت عن تلك الإرادة الواقعيّة ، وعلم أنّه بعث صوري لا إرادة دونه ـ وإلّا كان المحذور باقيا ، والظاهر أنّه كذلك وأنّ الإطاعة التي يلزم بها العقل موضوعها مطلق بعث
__________________
(١) لأنّه لو لا أمر الشارع به لما فعله المكلّف ؛ لعدم معرفته به. وحيث إنّ متعلّق الغرض أوسع من إتيانه بقصد أمر الشارع كان الغرض يسقط بمجرّد إتيانه. ولو من دون قصد الامتثال به.